هذه السطور لا تنحاز إلى سلطة أو منصب أو نفوذ فبعض أبطال الحكاية رحلوا عن الصورة، هذه السطور لا تنحاز إلا لأحكام العقل وطبائع المنطق، ثم إن هذه السطور تالية لاستقرار مكونات المشهد بحكم الزمن، وبعدما رسمت الأشهر والسنين لوحة فسيفساء أقرب للواقع، مرصعة بقطع من الشهادات والاعترافات، ومزينة بروايات طاهرة من دنس المصالح، وقبح تضارب الولاءات، لتقص حكاية وطن عمرها يزيد على عقد من الزمان، حكاية وطن، أحيكت لضرب استقراره مؤامرة امتدت لسنوات وصلت ذروتها فى 2010 فكان فى 2011 على مشارف الانزلاق فى «الفوضى الشاملة»، فبات الآن، وبرغم التحديات على أعتاب جنى ثمار «التنمية الشاملة»، والسبب: بطولة قائد.. وإرادة أمة.
كان إعصار 2011 عاتيا، اقتلعت رياحه التى هبت فى تونس عروش ونالت من استقرار نظم كانت قبل هذا التاريخ فى عداد الآمنين، كان الإعصار عاتيا، وكان نتاجا لسنوات طويلة من مؤامرة أحيكت خلف جدران مراكز استخبارات معادية، وأخرى كنا نظنها على الحياد.
منذ السنوات الأولى للحرب الأمريكية على الإرهاب، كانت الضغوط الأمريكية على القاهرة واضحة للجميع، أمام الكاميرات، كانت واشنطن لا تمل المطالبة بـ«الديمقراطية» والإصلاح الداخلى فى نظام مبارك، وخلف الكاميرات، وبحسب ما ذكره الأمين العام للجامعة العربية السفير أحمد أبوالغيط فى مذكراته، كانت المطالب ترقى إلى الابتزاز، بهدف تقديم مصر قوات تشارك فى العمليات الأمريكية فى العراق وأفغانستان، وفى وقت كانت واشنطن تحكم حصارها رويدا رويدا، كان الارتباك يسكن أركان المشهد فى دولة مبارك ودوائر الفكر وصنع القرار، اقتفى الجميع أثر كونداليزارايس وسيناريوهات الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد، وتابعوا بأعين سكنها القلق، تطورات المشهد فى عراق ما بعد صدام، والحرب الأمريكية المفتوحة ضد الإرهاب، لتلافى ما هو محتمل من ضربات دبلوماسية وغير دبلوماسية.
فى القاهرة، وقبل سنوات مما عرف بـ«ثورات الربيع العربى»، حملت الرياح القادمة من واشنطن رائحة المؤامرة مبكرا، بدا للإدارات الأمريكية المتعاقبة أن دولة مبارك استمرت أكثر مما ينبغى، فكانت الاتصالات ـ المعلنة وغير المعلنة ـ تعقد مع بين واشنطن وجماعة الإخوان الإرهابية، بذريعة التعاون بين وزارة الخارجية الأمريكية و«النواب المستقلين»، وهى الاتصالات التى بدأت فى برلمان 2005، ووصلت ذروتها فى 2010.
وبجانب لقاءات الغرف المغلقة مع نواب الجماعة، كانت التمويلات الأمريكية والأوروبية ممتدة لا تنقطع، نشأت صحف وقنوات، ودشنت أحزاب وحركات سياسية، كانت بمثابة أبواب خلفية لتسلل رموز جماعة الإخوان التى كانت فى ذلك الوقت محظورة بحكم القانون، عرفت مصر فى السنوات الخمس الأخيرة فى حكم مبارك نخبة جديدة، ولغة جديدة، عرفت مصر حراكا من نوع آخر، بدأت خلاله قبضة مبارك التى نالها من الضعف ما نال بحكم الزمن وبحكم صراعات الاجنحة داخل النظام، تلين، لتخسر الحكومة فى مواجهات منفردة ومنفصلة، بدأت فى اعتصامات المحلة وتظاهرات حركة كفاية و6 إبريل وغيرها من التنظيمات التى كانت السنوات والأشهر كفيلة بكشف نواياها وقوائم مموليها.
وفى وقت تراكمت فيه خسائر حكومة مبارك، كانت الإشارات الأولى للغدر الأمريكى حاضرة فى ميونخ، وعلى هامش مؤتمر بعنوان الأمن الأوروبى وارتباطه بالشرق الأوسط، عقد فى نهاية عام 2005، حينها كان مثّل الجانب المصرى، وزير الخارجية ـ آنذاك ـ السفير أحمد أبوالغيط، والذى فوجئ وبرغم خروج ذلك عن سياق المؤتمر، بهجوم حاد ضد الرئيس مبارك وإدارته، على لسان السيناتور الجمهورى جون ماكين الذى تحدث عن «دكتاتورية مبارك» التى تهدد السلام فى الشرق الأوسط.
كان مخطط استهداف مصر مدفوعا برغبات انتقام، وكان مدفوعا أيضا بكونها بلدا رئيسيا فى خريطة الشرق الأوسط الذى أرادت واشنطن أن تعيد رسم خطوطه وحدوده بشكل يضعه بطرق سلسلة تحت قوائم التبعية الأمريكية بما يضمن أمن واستقرار إسرائيل دون تهديد ولو ضئيل.
أنقاض الدولة و«يتامى الثورة»
كانت لحظة خروج مبارك من المشهد أكبر كثيرا من استيعياب من طالبوا بها وسعوا إليها، بدا واضحا أن الهتاف فى الميدان كان معديا أكثر من الأفكار، وبدا جليا أن التفكير فى صباح اليوم التالى لانهيار النظام لم يكن حاضرا فى ذهن أحد، إلا جماعة الإخوان الإرهابية، التى كانت آخر المنضمين للحراك الذى شهده ميدان التحرير، الجماعة الإرهابية أدارت سيناريوهات الفوضى عبر جبهات عدة، كان أولها إرهاق المجلس العسكرى الذى أوكلت إليه مهام إدارة البلاد لحين اجراء الاستحقاقات السياسية الجديدة، وثانيها، ضرب التحالف الذى جمع القوى الليبرالية واليسارية عبر الوقيعة حينا، وعبر الإرهاب الفكرى، بل والمادى فى أحيان أخرى، وثالثها، مد خيوط المؤامرة خارج الحدود للاستقواء بأطراف إقليمية كانت تراهن على ترويج نموذج الإسلام السياسي، ليتم تصديره من مصر إلى غيرها من دول وبلدان الشرق الأوسط، بهدف ضرب مفهوم الدولة الوطنية.
كانت الرهانات الإقليمية والدولية المشبوهة على تنظيم الإخوان تتوالى، وكانت أطماع الجماعة الإرهابية لا تعرف سطرا للنهاية، وفى أركان المشهد كانت الدولة المصرية تنزف مواردها وقواها، وتحاول جاهدة أن تلمزلم أشلاء مؤسساتها من الميادين ومن تحت الركام فى بلد استقر على موقع فى خريطة كانت تموج أطرافها بالاضطرابات والمؤامرات دون كلل أو توقف فى كل من تونس وسوريا وليبيا واليمن، بخلاف الجبهة المشتعلة بين الحين والآخر فى قطاع غزة والأراضى المحتلة.
بوتيرة متسارعة للأحداث بعد ثورة 25 يناير، استطاعت الجماعة الإرهابية كسب النقاط تلو النقاط، اثارت الانقسامات بين شباب الثورة والقوى المدنية فى قضايا الدستور أولا أم الانتخابات أولا، أداروا مؤامرات الإلهاء ببراعة، وحسموا اختبارات الصناديق بإمدادات «الزيت والسكر» لينالوا نصيب الأسد فى البرلمان، وبعد ذلك ينجحون بشق الأنفس فى انتزاع مقعد رئيس مصر، بعدما ظن البعض أن الجماعة بإمكانها أن تقدم «رئيسا لكل المصريين»، قادرا على أن يحمل فى أجندته وبرنامجه أحلام وطموحات شباب مصر الذى دفع الثمن غاليا فى ميادين الثورة، ولم يكن يعرف أنه لا يزال مطالبا بأن يدفع المزيد.
بشق الأنفس، فاز مرشح جماعة الإخوان الإرهابية، محمد مرسى فى الانتخابات بعد جولة إعادة أمام الفريق أحمد شفيق، بدأ عهده بخطاب لم ينس خلاله الأهل والعشيرة فى ميدان التحرير، حيث أدى اليمين القانونية، لتفتح مصر صفحة جديدة من مؤامرة سلب الهوية والإرادة، والعودة الجبرية للعصور الوسطى، مؤامرة كانت فى طريقها لأن تسود ويتحكم أطرافها ورعاتها فى كل أركان المشهد، وشتى مفاصل الدولة، ما لم يكن هناك، اللواء عبدالفتاح السيسى، رئيس المخابرات الحربية فى ذلك الحين، الذى تمت ترقيته لرتبة فريق أول فى أغسطس 2012، ووقع عليه الاختيار ليكون وزيرا للدفاع خلفا للمشير محمد حسين طنطاوى، ليختار السيسى بإرادة حرة، وشجاعة لم تكن متوافرة فى ظل ما مارسته جماعة الإخوان من إرهاب لشتى طبقات المجتمع، أن يغير مسار التاريخ.
الإعلان الدستورى ومخطط بيع سيناء
فى القاهرة، توالت مؤامرات الإخوان، وتعددت بطولات المؤسسة العسكرية، والفريق أول عبدالفتاح السيسى الذى أدار على مدار أشهر حرب النفس الطويل مع الجماعة الإرهابية، أملا فى أن تحيد عن سيناريو الفوضى والأخونة، وأن تتراجع عن آليات إدارة الدولة بمفهوم الجماعة وبأجندة التنظيم الدولى وأهدافه.
صدمت سياسات الجماعة الشعب المصرى عبر قرارات عدة، إلا أن ذروة الصدمة والصدام، كانت من خلال الإعلان الدستورى، الذى حاول الإخوان من خلاله تحصين محمد مرسى وسلطاته ليكون بعيدا عن أى حساب أو عقاب أو مساءلة عما يتخذ من قرارات وما يقدم عليه من اتفاقيات، ومن بين تلك الاتفاقيات التى كانت على أجندة الإخوان فى حكم مصر، تلك الصفقة المشبوهة التى نشرت تفاصيلها صحيفة وول ستريت جورنال فى عام 2013، والتى تمت مناقشتها خلال لقاء جمع محمد مرسى ووزير الخارجية الأمريكى، فى ذلك الحين جون كيرى، للتنازل عن سيناء لصالح أهالى قطاع غزة، مقابل إسقاط واشنطن ولندن لديون مصر.
تجاوزات الإخوان ومؤامراتهم لم تتوقف على مرئى ومسمع من الشعب المصرى وقواته المسلحة، والقوى المدنية المختلفة، لتبدأ سلسلة مفتوحة من المواجهات استشعر الجميع فيها القلق على هوية مصر، ومصيرها، وعلى استقرارها واستقلالها، فكانت 30 يونيو 2013، موعدا للخلاص، بعد أن عرف التاريخ عاما ربما هو الأحلك فى عمر الدولة المصرية.
كانت ثورة 30 يونيو رسالة واضحة للعالم، ولدول الجوار: هذه أمة واحدة مهما اختلفت مكوناتها، وفى وقت الأزمات لا انحيازات فيها إلا للهوية، ولا اعتبارات داخلها إلا لأمنها القومى، ولا مقدسات إلا لترابها وسلامة أراضيها، فلا مكان لخائن، ولا وجود لمن يدين بالولاء لتنظيم أو جماعة.
السيسى و30 يونيو.. بطولة مصرية عابرة للحدود
كانت رسالة 30 يونيو، وذلك المشهد التاريخى الذى توسط خلاله وزير الدفاع، الفريق أول عبدالفتاح السيسى شيخ الأزهر والبابا تواضروس ورموز القوى الوطنية، طوق نجاة لمن فقدوا الأمل فى غد أفضل داخل مصر.. وخارجها، إلا أن معركة السيسى والمصريين فى حماية الهوية، لم تنتهِ بهذا المشهد، فالمؤامرة الإقليمية لتنظيم الإخوان الدولى لم تنته بعزل محمد مرسى، لتعرف مصر موجة إرهاب هى الأعنف، وتواجه مؤامرة هى الأشرس، لدفع البلاد إلى حربا أهلية لا منتصر فيها، ولا مكان فيها إلا للمهزومين، غير أن ما أبدته القوات المسلحة المصرية وقوات الشرطة من حسم فى مواجهة بؤر الإرهاب ومنابر التحريض، وما تحلى به المصريون من وعى، كان كفيلا فى أن يوئد تلك المؤامرات فى سنوات قليلة، لتشكل تجربة 30 يونيو مصدر إلهام عابر للخرائط، ووحيا متجاوزا للحدود التى طالتها بعد 2011 رياح الفوضى ونال منها «وباء الإخوان».
مبكرا، أدركت دولة 30 يونيو أن الوقاية من الإرهاب تبدأ خارج الحدود. وأن حماية الجبهة الداخلية لن تتم ما لم تتمتع مصر بدول جوار قوية وآمنة من وباء الإخوان وعملائها، ففى ليبيا وعلى امتداد الحدود المشتركة كان لغياب الدولة المركزية وانهيار المنظومة الأمنية أثرا بالغا فى انتشار وتكوين تنظيمات مسلحة وأخرى إرهابية وتكفيرية، وفى تونس، كانت جماعة الإخوان التى خرجت سريعا من المشهد بعد 2011، تدير فرق اغتيالات سياسية، لتمهد طريقا ملطخا بالدماء للعودة إلى السلطة من جديد، أما سوريا، فكانت لا تزال تحارب تنظيمات إرهابية متعددة الجنسيات والولاءات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة