اندلعت ثورة القاهرة الأولى ضد الاحتلال الفرنسى الذى جاء إلى مصر فى حملة بقيادة نابليون بونابرت يوم 21 أكتوبر 1798، وبوصف عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من موسوعته «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر»: «كانت القاهرة فى حالة لم يألفها الناس من قبل، فكان الناس يتألبون فى الشوارع زرافات، يشكون ويتهددون ويخطب بعض المعممين هذه الجموع فيشعلون نار الحماسة فى قلوبهم فتقابلهم الجماهير بالتأييد والتحبيذ، وكان الناس يتلاقون على غير تعارف، فيتبادلون الشكوى ويتعاهدون على المقاومة».
استمرت الثورة ثلاثة أيام، وكان الفرنسيون يواجهون الثوار بالحديد والنار، ووفقا للرافعى: «تغلبت قوة الحديد والنار على مقاومة شعب أعزل لا سلاح معه، واستهدف سكان القاهرة بعد إخماد الثورة لأشد ضروب الانتقام، ونزلت بهم النزال بخطوبها وأهوالها، وقدر الكولونيل «ديتروا» فى يومياته قتل الأهالى بسبعمائة إلى ثمانمائة رجل».
ويؤكد الرافعى، أن هذا التقدير دون الحقيقة بمراحل، فضلا عن أنه لم يحص الذين ماتوا تحت أنقاض الدور المتهدمة والمنازل التى خربت أو احترقت، أما نابليون فأحصى الضحايا من المصريين فى تقريره إلى حكومته بعد يتراوح بين 2000 و2500 قتيل، وقدر «ريبو» عدد الضحايا بأربعة آلاف، ويؤكد الرافعى أن هذا العدد أقرب إلى الثقة.
ارتكب قوات الاحتلال الفرنسى فظائع هائلة فى إخماد الثورة، وبحسب تعبير الرافعى: «كانت أبعد ما تكون عن مقتضيات الحرب والقتال، ولهى أجدر أن تعتبر ضروب التنكيل والانتقام»، وينقل «الرافعى» ما يذكره الجبرتى الذى كان معاصرا للحدث وشهد فظائعهم وخاصة انتهاكهم حرمة الأزهر، وقال: «بعد هجعة الليل «ليلة الثلاثاء 23 أكتوبر»، دخل الإفرنج المدينة كالسيل، ومروا فى الأزقة والشوارع، لا يجدون لهم ممانع، كأنهم الشياطين أو جند إبليس، وهدموا ما وجدوه من المتاريس، ودخلت طائفة من باب البرقية، ومشوا إلى الغورية، وكرروا ورجعوا، وترددوا وما هجعوا، وعلموا باليقين أن لا دافع لهم ولا كمين، وتراسلوا أرسالا، ركبانا ورجالا، ثم دخلوا إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشموا خزائن الطلبة، والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع، والأوانى والقصاع، والودائع والمخبآت بالدواليب والخزانات، ودشتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وكسروا أوانيه، وألقوها بصحنه ونواحيه، وكل من صادفوه به عروه، ومن ثيابه أخرجوه».
يؤكد «الرافعى» أن أعمال الفرنسيين جاوزت الغرض من إخماد الثورة إلى الانتقام والإرهاب، ويذكر أن المؤلفين الفرنسيين اعترفوا بأن إعدام كثير من المتهمين فى الثورة تم سرا فى القلعة من غير محاكمة، فقتلوا بحد السنك، ويعترف القواد الفرنسيون فى رسائلهم التى تبادلوها بالفظائع التى ارتكبت فى قمع الثورة، كتب الجنرال برتييه رئيس أركان الحرب يوم 23 أكتوبر 1798: لقد نكلنا بالثائرين فى مذبحة رهيبة فسادت السكينة مساء أمس، وقد قتلنا منهم ألفين أو ثلاثة آلاف، وأمر نابليون بقطع رؤوس جميع المسجونين الذين أخذوا ومعهم أسلحة، وإرسال الجثث إلى شاطئ النيل فيما بين بولاق ومصر القديمة وإغراقها فى النهر، وأرسل نابليون بتاريخ 26 أكتوبر إلى الجنرال رينييه قومندان الشرقية يقول: «عادت السكينة إلى القاهرة، وفقد الثائرون نحو ألفى قتيل، وفى كل ليلة نقطع رؤوس نحو ثلاثين من الرجال وكثير من زعماء الأهالى، وأظن أن هذا سيكون درسا قاسيا لهم».
يذكر الدكتور عبدالعزيز محمد الشناوى، فى الجزء الثانى من كتابه «الأزهر جامعا وجامعة»، أن هذا الجو الإرهابى الذى عاشت فيه القاهرة، عقب إخماد الثورة كان فرصة ذهبية لوكيل محافظ القاهرة «برتملى اليونانى» أو «فرط الرمان» للتشفى من الشعب المصرى وإشباع هوايته فى التنكيل بأبناء البلاد، وجعل الفرنسيون منه شخصية آمرة، متحكمة، متعالية، متعسفة، تبطش بالمصريين فى غير رحمة أو هوادة، وبغير مقتنص أو سبب جدى».
يضيف «الشناوى»: «فى 26 أكتوبر مثل هذا اليوم 1798، عهد بونابرت إلى هذا اليونانى القبيح بالذهاب مع قوة من رجال الشرطة فى اتجاه منطقة القبة والخانكة، ويتجول فى عشر قرى تكون أقرب القرى إلى القاهرة، ويداهم بيوتها بحثا عن الخطابات التى كتبها أعضاء مجلس الثورة إلى مشايخ القرى وسكانها، وطلبوا فيها منهم الحضور إلى القاهرة لمساندة الثوار، وطلب بونابرت منه أيضا أن يجد فى جمع المعلومات المتصلة بهذا الموضوع، ويقول الجبرتى: سافر برتملى فى 28 أكتوبر 1798 إلى سرياقوس ومعه جملة من العسكر بسبب الناس الفارين إلى جهة الشرق فلم يدركهم، وأخذ من فى البلاد وعسف فى تحصيلها، ورجع بعد عدة أيام».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة