علاقة وثيقة ربطت الزعيم جمال عبد الناصر بالعميد طه حسين، رغم محاولات بعض الكتابات الإشارة إلى مضايقات تعرض لها الأخير، إلا أنه رثى الرئيس بعد رحيله وأشاد به فى مواقف ومناسبات عديدة.
عندما اندلعت ثورة يوليو كان طه حسين فى الثالثة والستين، و"ناصر" قائد الثورة 34 عاما فقط، لكنهما التقيا سريعا وربطت بينهما روابط نفسية واجتماعية، وأحلام وشعارات أطلقها حسين وآمن بها ناصر وجاهد لتنفيذها.
بين الزعيم والعميد سمات وظروف اجتماعية متشابهة.. الاثنان من بيئة صعيدية فقيرة، عانت كما عانى باقى الجنوب من رباعية الجوع والفقر والمرض والجهل؛ فلا تختلف "عزبة الكيلو" بالمنيا عن "بنى مر" فى أسيوط. وقد حارب "طه" بأفكاره وكتبه مظاهر التخلف والجهل والماضى المعطل عن التنوير والتقدم والمدنية، وقاد "ناصر" ثورة للنهضة والتنمية والعلم والحضارة. فكان التعليم قضية الرجلين؛ قال الأول إنه "كالماء والهواء"، وقرر الثانى مجانيته فى كل مراحله.
لم يخف طه حسين تأييده لثورة يوليو منذ بدايتها، وكتب عندما أُلغى النظام الملكى: "لقد شَقيت مصر بالنظام الملكى شقاءً متصلاً، وآن للمصريين أن يدركوا أن الحكم لن يكون إلا لهم، وأن الحكام لن يكونوا إلا خدما للشعب، يُنصّبهم ويرزقهم أجورهم، ويسألهم عما يفعلون". وقال فى مقال آخر: "أحب أن تكون ثورتنا حيّة، وأن تكون ثائرة، وأن يصبح المصريون فى جديد من أمرهم كلما أشرقت عليهم الشمس".
وعندما تعرض ناصر لمحاولة اغتيال من عناصر الإخوان فى "حادثة المنشية" بالإسكندرية، كتب مقالاً أدان فيه الجريمة، وأشاد بحسن تصرف الرئيس، وهاجم الجماعة. وكان يعتز بالثورة ودورها العالمى لأنها "كانت مقدمة لاستقلال شعوب مختلفة كانت خاضعة لسلطان الاستعمار الخارجى، ولسلطان الاستبداد الداخلى".
يُلاحظ أن طه حسين منذ مقالاته الأولى فى عهد الثورة، كان يوجهها مباشرة، عندما يخاطب المسؤولين، إلى جمال عبد الناصر الذى شغل منصب رئيس الوزراء، وذلك نتاج حصافته وذكائه وقد استشعر بهما أهمية الرجل ودوره المركزى. ويسرد عميد الأدب العربى مواقف بينه وبين عبد الناصر، وعلاقته به، إذ قال إنه كان على اتصال دائم معه، وكانت بينهما مودة فى غاية الرخاء، وناصر له محل فضل عليه لا ينساه، فد أهداه قلادة النيل التى كانت تُهدى فقط للملوك والرؤساء.
وأوضح أيضا أنه كلما أرسل لعبدالناصر برقية أو تحية أو تهنئة، رد عليه بخير منها، فقد كان صديقًا وأخًا حميمًا له، وكان عطوفًا على المواطنين، وهذه كلها أخلاق ما عرفناها فى الذين ينهضون بالحكم. وعند وفاة عبد الناصر فى 1970 رثاه بكلمات مؤثرة: "أبدا لم تلهث الكلمة وتترنح فى مواجهة موقف ما، مثلما حدث لها حينما صك أسماعها نبأ وفاة جمال عبد الناصر".
وهناك ثلاثة مواقف تعكس عمق العلاقة والمودة بين الزعيم والعميد: الأول عام 1958 عندما فاز طه حسين بجائزة الدولة التقديرية، وأُقيم حفل كبير حضره الرئيس وسلّمه الجائزة، فتلقاها وقال كلمة مهمة: "نحن حين نتلقى منك هذا الشرف العظيم؛ إنما نسعد لأننا نتلقاه من شخص نحبّه ونُجلّه، نتلقاه من شخص يمثل الدولة ويسدى إليها باسمها تقديرها وتكريمها. وإنى يا سيدى الرئيس لأشعر بأنك تكرمنى مرتين، تكرمنى حين تكرم أستاذى أحمد لطفى السيد، فكل تكريم للأستاذ إنما هو تكريم لتلاميذه". والموقف الثانى فى مارس 1955، فقد نشرت مجلة "روز اليوسف" خبرا مضمونه الكشف عن رد فعل الرئيس عندما علم باحتياج طه حسين لأربعة آلاف جنيه لبدء مشروع ضخم عن ترجمة الآثار الأدبية والفكرية العالمية إلى العربية، وكانت المفاجأة أن عبدالناصر لم يضع لمشروعه المبلغ المحدد، بل وضع 50 ألف جنيه تحت تصرف العميد.
وطرحت "روز اليوسف" سؤالا على المثقفين عن الكتب التى يودّون اقتراحها ضمن المشروح، وكان الدكتور محمد حسين هيكل أول المجيبين، فقال: "أترك مهمة الاختيار وأنا مطمئن غاية الاطمئنان إلى الدكتور طه حسين، فهو أديب واسع الأفق والمعرفة ويستطيع أن يعرف أى الروائع العالمية أولى بالنقل". أما المناسبة الثالثة بين ناصر والعميد، فبحسب ما نشرته الأخبار عام 1969، أرهف الدكتور طه سمعه وهو يصغى باهتمام شديد لحديث زوجته واصفةً شكل "قلادة النيل" بينما تمتد يده ببطء لتتحسّسها، وينهمر الدمع من عينيه تأثرًا.
كان الرئيس قد أرسل كبير أمناء رئاسة الجمهورية، موفدا لمنزل عميد الأدب العربى، للاستفسار عن صحته وتسليمه قلادة النيل، ومرت برهة صمت قبل أن يقول الدكتور له: "أرجو أن ترفع إلى سيادة الرئيس شكرى، وامتنانى الذى لا أستطيع أن أعبر عنه بالألفاظ، ويكفى أن قلبى يشكره". ولم يكتف العميد بالشكر الشفوى، بل أصر رغم مرضه أن يذهب إلى القصر الجمهورى بالقبة، ليعبر شخصيا عن شكره للرئيس، فالتف ببطانية وبصحبته ابنته أمينة، وقاما بزيارة القصر والتوقيع فى دفتر الزيارات بقصر القبة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة