يبدو أن الدبلوماسية المصرية نجحت في تحقيق العديد من الاختراقات، فيما يتعلق بالمواقف الدولية من قطاع غزة، وهو ما يبدو في تراجع "النبرة" المتشددة التي تبناها الغرب، تجاه الأزمة، مع بدء العدوان الإسرائيلي، والذي جاء في أعقاب "طوفان الأقصى"، وذلك عبر العديد من الخطوات التي اتخذتها، بدءً من الدعوة لعقد قمة "القاهرة للسلام"، والتي شهدت استجابة دولية واسعة النطاق، من جانب، بالإضافة إلى الزيارات المتواترة، التي شهدتها القاهرة، منذ بدء الأزمة، من قبل كبار المسؤولين الدوليين، وعلى رأسهم المستشار الألماني أولاف شولتس، ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، ورئيسة الحكومة الإيطالية جورجا ميلوني، وحتى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالإضافة إلى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، بما يعكس حالة من الإدراك الدولي الكبير بالأهمية التي تحظى بها الدولة المصرية باعتبارها مركز الحل للأزمة الراهنة.
وبالنظر إلى المواقف الدولية في بداية الأزمة، نجد أن ثمة دعما غير محدود لإسرائيل، فيما يتعلق بالعدوان، تحت ذريعة حقها في "الدفاع عن النفس"، دون النظر إلى ما ارتكبته قوات الاحتلال من انتهاكات صريحة، سواء بقصف المدنيين الأبرياء، أو استهداف المستشفيات، أو دور العبادة، وما ترتب على ذلك من ألاف القتلى والجرحى، معظمهم من النساء والأطفال، بينما وجدت دعوات التهجير التي تبنتها سلطات الاحتلال، في بداية الأمر، قدرا من التعاطف النسبي، في ظل ما قد تضفيه، في ظاهرها، من حماية للمدنيين الذين يعانون حصارا خانقا جراء القصف المتواتر، في حين كان ملف المساعدات الإنسانية غائبا تماما عن دائرة الاهتمام الدولي.
الموقف الدولي المنحاز لسلطة الاحتلال ربما ليس جديدا تماما، إلا أنه ربما اتسم بقدر من "الفجاجة" هذه المرة، وهو ما يرجع في جزء منه إلى سقوط عدد كبير من الأسرى "مزدوجي الجنسية"، من مواطني بعض دول الغرب الأوروبي في أيدي الفصائل إبان عملية "طوفان الأقصى"، مما دفع إلى مباركة دولية للاعتداءات، التي تحمل طبيعة انتقامية من جانب، ناهيك عن حالة من الارتباك الدولي بشكل كبير، سواء في الجانب الإسرائيلي أو الداعمين لها، جراء صعود قوى جديدة بات بإمكانها القيام بدور أكثر توازنا، وبالتالي تعزيز ما آلت إليه الشرعية الدولية، وفي القلب منها "حل الدولتين"، بعد سنوات من التقاعس في اتخاذ خطوات جدية في هذا الإطار.
وهنا وضعت الدولة المصرية على عاتقها مسؤولية "بناء" توافقات دولية، من شأنها الوصول إلى أهداف قصيرة المدى، على غرار التهدئة، باعتبارها تمثل صياغة بديلة مرحليا لـ"وقف إطلاق النار"، ووصول المساعدات إلى سكان القطاع، والحصول على إجماع دولي لفكرة "رفض التهجير"، نظرا لما تمثله من تصفية للقضية، وتقويض للشرعية الدولية، ناهيك عن أهداف أخرى متوسطة المدى تقوم في الأساس على دور مصري فيما يتعلق بتحرير الأسرى، والتحول نحو وقف إطلاق النار، وحتى أهداف أبعد نسبيا تتجسد في العودة إلى المفاوضات، فيما يتعلق بقضايا الوضع النهائي.
فلو نظرنا إلى موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، نجد أن ثمة تغييرا كبيرا في الخطاب الذي تبناه خلال لقاءه مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، تجلى في حديث صريح عن التهدئة، بل وامتد إلى إرسال مساعدات فرنسية إلى سكان القطاع، عبر الأراضي المصرية، وهو ما يمثل في جوهره ضغطا على سلطات الاحتلال، لقبول فكرة التهدئة، بينما أبدى رفضا صريحا لفكرة التهجير، وهو ما حظى بإجماع أوروبي أمريكي، بدا في أحدث حلقاته، خلال المكالمة الهاتفية التي جمعت الرئيس السيسي مع نظيره الأمريكي جو بايدن.
وبين "التوافق" الدولي حول ضرورة التهدئة، والإجماع على رفض التهجير، نجد أن ثمة تحول كبير في المواقف الدولية بصورتها الجمعية، من التعاطف الحاد تجاه إسرائيل، كما كان عليه الحال في بداية العدوان الوحشي على قطاع غزة، نحو قدر من التوازن، وهو ما يبدو في تصريحات العديد من المسؤولين الدوليين، والتي اتجهت نحو إدانة قصف المدنيين، والدعوة إلى وصول المساعدات.
فمن جانبها، تقول وزيرة خارجية استراليا بيني وونج اليوم الاثنين إسرائيل إلى توفير الحماية للمدنيين في قطاع غزة بعد التأكد من مقتل آلاف الأطفال في الهجمات الانتقامية الإسرائيلية، موضحة أنه "عندما نحث إسرائيل على حماية حياة المدنيين، كما نفعل، فمن المهم أن تستمع لنا إسرائيل ولن يقبل المجتمع الدولي استمرار الوفيات بين المدنيين".
التصريحات الرسمية تزامنت مع احتجاجات شعبية شهدتها عواصم العالم، للمطالبة بوقف العدوان، وإنهاء الاحتلال، وتمرير المساعدات الإنسانية، وهو ما ساهم إلى حد كبير في تعديل "بوصلة" الحكومات نحو تبني مواقف أكثر اتزانا.
الموقف الأسترالي يمثل نموذجا مهما لتغيير ملموس في المواقف الدولية، وهو الأمر الذي لعبت فيه الدبلوماسية المصرية دورا كبيرا عبر العمل الجماعي، من خلال قمة "القاهرة للسلام"، أو على المستوى الثنائي، عبر اللقاءات المتواترة التي عقدتها القيادة المصرية مع قادة العالم في الأيام الماضية، حيث نجحت باقتدار في فضح انتهاكات الاحتلال أمام العالم، والتصدي لدعواته المشبوهة، إلى الحد الذي فقد فيه جزء كبيرا من التعاطف الدولي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة