معركة طه حسين وهيكل كشفت عن توقيع عميد الأدب العربى لمقالاته باسم مستعار

الأحد، 08 أكتوبر 2023 12:00 م
معركة طه حسين وهيكل كشفت عن توقيع عميد الأدب العربى لمقالاته باسم مستعار الدكتور طه حسين
كتبت بسنت جميل

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

طه حسين.. الذى اقتحم الحقول الثقافية والأدبية، وأدلى فيها بدلوه، فكان الناقد والمترجم والكاتب والباحث، ليظل معاصرًا على مر التاريخ رغم رحيله، وخلال تلك الأيام تمر  ذكرى رحيل عميد الأدب العربى الدكتورالمفكر طه حسين، والذى رحل عن عالمنا فى 28 أكتوبر من عام 1973م، بعد أن أثرى الحياة الثقافية بأفكاره التنويرية التي أنارت عقول الأجيال ومازالت نجنى ثمارها حتى وقتنا هذا.

وخلال حياة عميد الأدب العربى خاض العديد من المعارك الفكرية التي كانت جزءًا أساسيًا فى الحياة الثقافية لدى جيل النهضة المصرية الحديثة، ومن أبرز تلك المعارك  كانت معركة كبرى تحت اسم "الحرب والحضارة" بين الشاب طه حسين العائد حديثًا من فرنسا بعد حصوله على درجة الدكتوراه والكاتب الكبير محمد حسين هيكل صاحب رواية "زينب"، واستمرت هذه المعركة على مدى 6 مقالات مثلت افتتاحيات "السفور".

وخلال مطالعتنا لتلك المعركة على صفحات مجلة السفور لاحظنا أن عميد الأدب العربى كان يوقع مقاله تحت اسم مستعار وهو الأمر الذى جعلنا ننتبه جيدًا وخصوصًا أنه أمر يكاد يكون غير معروف داخل الحقل الثقافي، وبالفعل بحثنا في هذا الشأن وعثرنا على العديد من القراءات في المقالات الأولى للدكتور طه حسين في "السفور"، وأبرزهم الدكتور الراحل جابر عصفور، ولكن خلال مقاله لم يذكر أي شيء عن توقيع عميد الأدب العربى باسم "تاسيت" وهو اسم لأحد المؤرخين اللاتينيين المهمين، وهو ما زاد تأكيدنا بأن هذا الأمر غير معروف نسبيًا.

ولمزيد من التأكيد وسبيلا فى إخماد الشكوك، تواصلنا مع الناقد الدكتور حسين حمودة، أستاذ الأدب العربى بجامعة القاهرة، الذى كان الأمر بالنسبة له مفاجأة، وقال: الكتابة بأسماء مستعارة ظاهرة لافتة وكبيرة في الأدب العربي القديم و الحديث، في التراث العربي القديم نلاحظ هذا مع أسماء مثل: الاصمعي والجاحظ.. وفي العصر  الحديث هناك عدد كبير ممن كتبوا بأسماء مستعارة: مي زيادة، الشيخ محمد عبده، عبدالرحمن الكواكبي، عائشة عبدالرحمن، محمد حسين هيكل يحيى حقي، وأدونيس، وغيرهم

وأضاف الدكتور حسين حمودة، ولهذه الظاهرة أسباب متعددة، منها عدم رغبة الكاتب أو الكاتبة بالتصريح بمركزه أو بمركزها الاجتماعي، ومنها التحرر من بعد القيود التي تحيط بالكاتب أو الكاتبة، ومنها التحايل على النظرة الشائعة التي ترتبط ببعض الممارسات، ومنها التخفي أو التقنع بقناع يسمح بهامش من الحرية، أو يجعل القراء يؤسسون أحكاما على ما يقرأون على أساس أحكامهم على كاتب ما يقرأون، ومنها بشكل خاص ما ارتبط ببعض الكاتبات، ومنهن مي زيادة التي كتبت بأسماء متعددة، ورغبتها في أن يقرأ القراء ما تكتب دون النظر إلى أي اعتبارات خارجية، ومنها استعارة بعض الدلالات التي تقترن بالاسم المستعار الذي يختاره الكاتب أو الكاتبة.

وتابع الدكتور حسين حمودة قائلا: في حالة طه حسين، الذي كتب هذه المقالات في سجاله مع محمد حسين هيكل تحت اسم "تاسيت".. أتصور أنه كان يسعى إلى إحاطة مقالاته خلال هذا السجال بأبعاد تتصل بصوت المؤرخ، وموضوعيته، وتأمله في بعض القضايا التي تتأسس على ما تفعله التجارب الكبرى في الشعوب، ومن بين هذه التجارب تجربة الحرب.. وذلك كله تأسيسا على ما يحيط باسم

وأشار إلى أن " بابليوس كورنِليوس تاسيتُس"، المؤرخ اللاتينى الذى ولد فى القرن الميلادي الأول.. وقد عرف طه حسين التراث اللاتيني، والتراث الإغريقي كذلك، معرفة جيدة (وقد ترجم بعض هذا التراث) وتأثر به.. واختيار تاسيت ربما يرتبط أيضا أن هذا المؤرخ له اهتمامات بمغزى حركة التاريخ، وبرؤية ما تجلبه الصراعات من آثار، وله رأي حول أن البرابرة البعيدين عن التحضر الروماني الذي ينتسب إليه لا يخلون من مزايا.. ولعل اختيار طه حسين اسم هذا المؤرخ كان لسبب ما يرتبط بإحاطة مقالاته ببعض ما يحيط بتجربة أو بصوت او بتوجّه هذا المؤرخ.. وربما هناك أسباب أخرى لهذا الاختيار تستحق البحث المطول..

وهو الأمر الذى أكد لنا أن توقيع عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين تحت اسم مستعار لم يكن معروفًا بين المثقفين والمفكرين فهل بالفعل لم يلاحظه أحد على الإطلاق؟، وهو الأمر الذى يتضح لنا حتى هذه  اللحظة.

أما عن تفاصيل ما جاء فى المقالات الأولى التي خلقت المعركة الثقافية أو المعركة الثقافية بين الدكتور طه حسين العائد حديثًا من فرنسا بعد حصوله على درجة الدكتوراه والكاتب الكبير محمد حسين هيكل صاحب رواية "زينب"، فكانت فى هذه الأثناء كانت الحرب العالمية الأولى تدور رحاها، وكان الجميع مشغول بأحداثها ومتابع لأخبارها.

فعند مطالعة المجلد الأول من جريدة السفور، التى أصدرتها هيئة دار الكتب والوثائق القومية، والتى تضم الأعداد الأولى من جريدة السفور التى صدرت سنة 1915، نجد البداية كانت فى يوم 5 نوفمبر عام 1915، عندما كتب طه حسين تحت اسم مستعار "تاسيت" وهو اسم لأحد المؤرخين اللاتينيين المهمين، تحت اسم (الحرب والحضارة) أن "الحرب أثم كبير ولكنها تسع نفعا كثيرًا، ولأن كان ضرها شاملاً وشرها مستطيرًا فإن نفعها أشمل وخيرها أجزل وآثارها الصالحة أعظم، وليس من الميسور أن تبحث عن حضارة أمة من أمم التاريخ القديم والحديث، كيف نشأت وكيف ارتقت من غير أن تجد للحرب الأثر الأول فى نشأتها ورقيها، ولم يخطئ مصر والحمد لله حظ من منافع الحرب وآثارها الصالحة كما أخطأها حظها من كثير من الأشياء النافعة، لأن هذه الحرب أشد هولاً وأصعب على النفس وقعًا أن تعجز استلانه القلوب القاسية وتنبيه النفوس الغافلة وترقيق الأكباد الغليظة فلم تبق أمة من أمم العالم إلا مستها الرحمة بالمحاربين وأخذها البر بمنكوبيها وضحاياها ومهما أخطاءنا الانتفاع بالحرب فلم يخطئنا أننا ربحنا جمعية الهلال الأحمر وميلنا إلى معونة الصليب الأحمر".

ويبدو أن هذه المقالة قد استفزت الكاتب الكبير محمد حسين هيكل لأنه سرعان ما نشر مقالة بالسم نفسه "الحرب والحضارة" فى افتتاحية العدد المنشور بتاريخ 19 نوفمبر عام 1915، وفيه "كتب صديقنا (تاسيت) مقالة فخيمة طويلة عن فضائل الحرب وأظهر لنا ما جادت به المجازر الإنسانية على بنى آدم من حياة وقوة ورقى، ولقد خيل لنا ونحن نقرأها أن الدماء الإنسانية أسمدة، إذا اختلطت بالأرض أنبتت الفلسفة والمدينة، ليهنأ (تاسيت) بالرأى الذى قرره وأن العالم المتمدن ليقدم الناس المثل الحى على ما فى الحرب من فضائل ها هى الكنائس البديعة تخرب ودور الكتب تحرق".

الدكتور طه حسين لم ينسحب من المعركة، وفضل التمسك والدفاع عن وجهة نظره، لذا كتب يوم 26 نوفمبر مقالة "الحرب والحضارة" فى افتتاحية  العدد الجديد  وقال: "شعور الناس بقبح الحرب وسوء أثرها فى حياة الأفراد والجماعات قديم وغير محدث، غير أننا لا نعرف قضية من قضايا الحضارة، وأصلاً من أصول المدينة بل لا نعرف شريعة عامة ولا دينا شائعا إلا وقد أوجدته الحرب حين وجد وأماتته الحرب حين مات، قلنا ولا نزال نقول إنك لا تستطيع أن تدرس تاريخ أمة من الأمم أو حضارة شعب من الشعوب من غير أن يكون للحرب فيها الأثر الموفور، لفظ الحرب بشع يهيج الحس الرقيق، وآثار الحرب المباشرة أبشع من هذا الفظ وأشد منه فى النفوس، لكن الباحث المحقق يجب أن يكون أبعد نظراً وأقوى قلباً أن يمنعه البكاء، لما يرى من هول الابتسام لما سيرى من خير، مثل صديقنا الدكتور هيكل فى تولهه للإنسانية وتفجعه عليها مثل الرجل يشهد القصة فى ملعب التمثيل فيبلغ من نفسه إتقان الممثلين والممثلات حتى يخدعه عن الحقيقة، ومعذرة إليك أيها الصديق فقد كنت فى مقالك خياليا تلتمس المثل الأعلى من الحياة، وأنا آسف الأسف كله لأن الإنسان لن يظفر بهذا المثل الأعلى إلا فيما وصفت كتب الدين من دار الخلود".

وتتابعت المقالات ولم ييأس الدكتور محمد حسين هيكل فى الدفاع عن وجهة نظره، وخرج فى عدد 10 ديسمبر 1915، ليدعم وجه نظره فى نفس المقالة التى تحمل عنوان "الحرب والحضارة"، قائلا: "لا أحسب من بين العقلاء من يمتدح بالحرب إلا رجلا واحدا، ذلك الرجل هو المعرى أو من على شاكلته، فأساس فلسفته أن الوجود شقاء بذاته وخير ما يرجى للناس الخلاص منه، ولا شك أن الحرب أسرع من كل الأوبئة فعلا وأقرب ما يمكن لتحقيق خلاص الناس من الحياة".

وترقب القراء أن يخرج الدكتور طه حسين، من جديد وبالفعل حدث ذلك فى عدد 17 ديسمبر 1915، قائلا: ليس بيننا وبين الدكتور هيكل سبيل إلى الاتفاق لأن كلينا يسلك طريقا بينها وبين مذهب الآخر كما يقول المنطقيون أقصى غاية الخلاف، فقد دعوناك إلى أن تفكر فى أمر الحرب تفكيراً بريئا من الخوف والفزع بعيدا عن الخزن والجذع، فالحرب شر وشر ضرورى لم يكن منه بد ليصل الإنسان إلى هذا الحظ الذى وصل إليه من الحضارة، وندعى أنها مصدر الفلسفة اليونانية، فالحرب شر وآثارها السيئة كثيرة وكذلك الحمى شر وآثارها السيئة كثيرة والأرض مملوءة بالون الوباء تصلى منها فى كل يوم فنونا من الالم ولكن  هل كان يوجد الطب لو لم يوجد المرض.

ولم يعجز قلم الدكتور محمد حسين هيكل عن الرد على كل جزء قاله "طه حسين"، وخرج فى عد 24 ديسمبر 1915،  قائلاً: "عفوا يا سيدى الدكتور طه حسين ما كنت أحسب أن يصل بك الجدل فيخرجك عن طوقك ويجعلك ترمى مناظرك مرة بأنه يعرف الحق ثم يأبى إلا أن يتعلق بأهداب الخيال، وقد يعذر إذا قال إن الحرب والسلم كالطب والمرض، فما زالت أقول أن مظهر الوحشية وآية تعس الإنسانية وأنها لذلك ستزول حتماً من العالم، إنى أخشى أن تأخذ صديقى الدكتور طه حسين حده الشباب ونشوة المحافظة على المبدأ فيعمد إلى تأييد رأيه بالشدة التى رأيناها فى مقاله الأخير لكنى أرجو أن يتمهل قليلا، إنه مسافر بعد يومين أو ثلاثة من ظهور هذه المقالة لينزل بين أظهر الفرنساويين فلينتظر حتى يكون هناك على مقربة من الحرب وحتى يستقى المعلومات الصادقة عن آثارها ثم ليخبرنا بما يرى."

 وبهذه المقالة انتهت المعركة فى المجلد الأول من جريدة السفور، ونحن فى انتظار المجلد الثانى من جريدة السفور لنعرف إن كانت هذه المعركة قد انتهت بمقالة الدكتور محمد حسين هيكل أو أنها لا تزال مستمرة فى المجلد الثانى.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة