بدماء عربية دونت "الصهيونية" تاريخا مزيفا، وجد من يحميه ويشمله بالرعاية والمساندة، عبر وعد الاغتصاب الاستعمارى المعروف بـ "وعد بلفور" الجائر الذى يمر اليوم ذكراه الـ 106 أعوام، وكان السبب الرئيسي فى ضياع حقوق الشعب الفلسطينى وبمثابة الكارثة الكبري، لتصبح بعده القضية الفلسطينية "أم القضايا" للشعوب العربية، وتسبب فى خلق الصراع العربي-الإسرائيلى، وبعد سنوات من النزاع جاء الاحتلال بمخطط جديد متمثل فى تهجير قسري يعجل من ضياع حقوق الفلسطينية وقضيتهم ويجعلها طى النسيان.
الوعد يعد اغتصابا بريطانيا يهوديا لأرض فلسطين، ويتعارض مع مبادئ القانون الدولي، لكن تلاقي المصالح الاستعمارية البريطانية وتقاطعها مع الحركة الصهيونية إبان الحرب العالمية الأولى، ورغبة بريطانيا في كسب تأييد يهود العالم لها أثناء تلك الحرب وتقليص موجات الهجرة اليهودية نحو أوروبا وتحويلها لفلسطين، دفعهم للتفكير فى ابعادهم عن أوروبا ومحهم أراضى لا يملكونها لشعب- يشكل تعداده بضع آلاف- لا يستحق.
تعود قصة "بلفور" إلى الحرب العالمية الأولى، ويقول كتاب "الصراع العربى الإسرائيلى.. مائة سؤال وجواب" تأليف بيدرو برييجر، فى الوقت الذى كان البريطانيون يراقبون تفكك الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، كانوا يحيكون دسائس التحالفات للسيطرة على المنطقة بما فيها فلسطين، فقد كان هنرى مكماهون الممثل البريطانى فى القاهرة على اتصال دائم مع القادة العرب 1915، كما وعدهم سابقا بالدعم كى تنال معظم دول الشرق الأوسط استقلالها فى المستقبل مقابل تعاونهم فى القتال ضد الدولة العثمانية.
ووفقا لـ برييجر، فبينما كان البريطانيون أصحاب التجارب والمهارات الاستعمارية يتفاوضون على استقلال الدول العربية كانوا يطلقون وعودا لليهود حول دعمهم فى إنشاء وطن قومى يهودى فى فلسطين، وذلك قبل أن يسيطروا على المنطقة، رغم تناقض الوعدين من الناحية المنطقية.
أعجب وزير الخارجية البريطانى آرثر جيمس بلفور بشخصية الزعيم الصهيونى حاييم وايزمان الذى التقاه عام 1906، فتعامل مع الصهيونية باعتبارها قوة تستطيع التأثير فى السياسة الدولية وبالأخص قدرتها على إقناع الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون للمشاركة فى الحرب العالمية الأولى إلى جانب بريطانيا، وحين تولى منصب وزارة الخارجية فى حكومة لويد جورج فى الفترة من ديسمبر1916 إلى 1919 وعده المعروف بـ"وعد بلفور" عام 1917 انطلاقا من تلك الرؤية.
ففى الثانى من نوفمير عام 1917 كتب بلفور، رسالة إلى البارون ليونيل روثشيلد المصرفى اليهودى المعروف الذى كان نائبا فى مجلس العموم البريطانى كى يسلمها إلى الحركة الصهيوينة التى كانت على علاقة قوية به.
وجاء فى الرسالة "إن حكومة صاحب الجلالة ترى من الملائم إقامة وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطين، وستبذل قصارى جهدها فى توفير التسهيلات لتحقيق الهدف المذكور " ، وأضافت "أنها لن تقوم بأى إجراء قد يلحق الضرر بحقوق المجتمعات غير اليهودية فى فلسطين".
الرسالة لم تتطرق إلى إقامة دولة، كما لم تتضمن أى ميثاق قانونى، إضافة إلى أن البريطانيين لم يكونوا قد سيطروا على فلسطين، ولكنه كان للرسالة أهمية بالغة بالنسبة إلى الحركة الصهيونية لأنها مثلت أول اعتراف بمشروعها من أكبر قوة دولية آنذاك، ومنذ ذلك الحين رأت الحركة الصهيونية فى "وعد بلفور" بريقا قانونيا يمنحهم الشرعية فى فلسطين.
وعرضت بريطانيا نص تصريح بلفور على الرئيس الأمريكي ويلسون، ووافق على محتواه قبل نشره، ووافقت عليه فرنسا وإيطاليا رسميا سنة 1918م، ثم تبعها الرئيس الأمريكي ولسون رسمياً وعلنياً سنة 1919م؛ وكذلك اليابان. وفى سنة 1920م، وافق المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر "سان ريمو" على أن يعهد إلى بريطانيا بالانتداب على فلسطين، وأن يوضع وعد بلفور موضع التنفيذ.
في المقابل اختلفت ردود فعل العرب تجاه الوعد بين الدهشة، والاستنكار، والغضب، وبهدف امتصاص حالة السخط والغضب التي قابل العرب بها وعد بلفور أرسلت بريطانيا رسالة إلى الشريف حسين، بواسطة الكولونيل باست تؤكد فيها الحكومة البريطانية أنها لن تسمح بالاستيطان اليهودي في فلسطين إلا بقدر ما يتفق مع مصلحة السكان العرب من الناحيتين الاقتصادية والسياسية.
أما الشعب الفلسطيني فلم يستسلم للوعود والقرارات البريطانية والوقائع العملية التي بدأت تفرضها على الأرض الحركة الصهيونية وعصاباتها المسلحة، بل خاض ثورات متلاحقة، كان أولها ثورة البراق عام 1929م، ثم تلتها ثورة 1936م .
واتخذت الحركة الصهيونية العالمية وقادتها من هذا الوعد مستنداً قانونياً لتدعم به مطالبها المتمثلة في إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، وتحقيقاً لحلم اليهود بالحصول على تعهد من إحدى الدول الكبرى بإقامة وطن قومي لهم، يجمع شتاتهم بما ينسجم وتوجهات الحركة الصهيونية بعد انتقالها من مرحلة التنظير لأفكارها إلى حيز التنفيذ في أعقاب المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في مدينة بازل بسويسرا عام 1897م، والذي أقرّ البرنامج الصهيوني، وأكد على أن الصهيونية تكافح من أجل إنشاء وطن للشعب اليهودي في فلسطين.
وعلى الرغم من ظهور معارضة شديدة لهذا التوجه من قبل اليهود الليبراليين الذين استطاعوا الاندماج في المجتمعات التي عاشوا فيها، ورأوا في هذا التوجه دليلاً، قد يتخذه ما يسمى بأعداء السامية على غربة اليهود، وعدم قدرتهم على الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها- إلا أن هذه المعارضة لم يكن لها أي تأثير على توجه الحركة الصهيونية العام وفقا لرواية تقرير وكالة وفا الفلسطينية.
ذريعة اضطهاد اليهود
استفاد اليهود من اضطهادهم القديم من الدول القديمة التى احتلت المنطقة ومن اضطهادهم الحديث فى أوربا الذى وصل إلى ذروته أبان الحكم النازى لألمانيا، والتقت رغبتهم فى وطن لهم مع رغبة الدول الاستعمارية فى إضعاف المنطقة، وفقا لكتاب "100 عام على وعد بلفور قراءة عبر الأدب والتاريخ" للكاتب ميسرة صلاح الدين.
وبعد أن خرجت بريطانيا من الحرب العالمية الثانية منهكة ومرهقة، بدأت الآلة الإعلامية الأمريكية فى مصاحبة الجيش المنتصر- جيشها وجيوش الحلفاء على المانيا - فى التجول داخل ألمانيا ما بعد الحرب، لتصور الكاميرات التليفزيونية معسكرات الإعتقال النازية، وتكشف العديد من المقابر الجماعية، وأفران الحرق، وتبثها إلى العالم مع التركيز على المعتقلين اليهود بشكل خاص، على حساب كل الضحايا الآخرين".
"وأصبح اليهود أكثر تصميمًا بعد الحرب على بناء وطن خاص بهم، وأصبح العالم أكثر تعاطفًا وترحيبًا بالفكرة، وتوالت الهجرات بشكل مكثف لفلسطين، حتى إن الرئيس الأمريكى ترومان أراد أن يرحل 100 ألف من الناجين من معسكرات التعذيب النازية التى سميت لاحقًا"الهولوكست"، وهى كلمة يونانية تعنى إحراق الأضحية بالكامل. يرحلهم إلى فلسطين.
وأصبحت بريطانيا، الدولة الجريحة بعد حربين عالميتين، فى حيرة من أمرها، وأصبحت تكلفة الحفاظ على فلسطين أكثر ممن ينبغى، فأعلنت بريطانيا من قبل مندوبها فى الأمم المتحدة عن أنها عاجزة فى ظل الأوضاع الراهنة على حفظ السلام فى فلسطين بين العرب واليهود، وستترك حل المسالة فى أيدى الأمم المتحدة، ويثبت كيف تم الغدر بالعرب".
من مؤامرة بلفور إلى مؤامرة التهجير
وبعد أكثر من 100 عام، يعيد التاريخ نفسه لكن بمذاق مختلف، فقد رأت إسرائيل اليوم لنفسها الحق فى تهجير السكان الأصليون لفلسطين تهجيرا قسريا ومنحهم سكان قطاع جزء من أرض سيناء المصرية لتوطينهم، وقوبل هذا المخطط برفض فلسطينى قاطع على محاولة تصفية القضية الفلسطينية وجعلها طى النسيان، مؤامرة جديدة كشفت خيوطها الأولى قيادة مصر الرشيدة، وعملت الدولة المصرية على الحيلولة دون المساس بأراضيها وتصفية قضية القضايا.
ليس ذلك فحسب بل جاء رد الرأى العام المصري أيضا صارما فى وجه الاحتلال الغاصب، وعبر الشعب المصري عن رفضه باصطفافه قيادته الحكيمة، من خلال مسيرات تضامنية خرجت إلى شوارع القاهرة على مدار أسابيع لتبعث برسالة استياء ورفض شديد لتهجير الشعب الفلسطينى عن أراضيه وتوسيع دائرة الحرب.
وخلال العدوان الإسرائيلى الغاشم على غزة أكتوبر 2023، طرحت دولة الاحتلال الفكرة أكثر من مرة فى منابرها الاعلامية، لكن نجحت مصر فى انتزاع مواقف دولية لضمان عدم ضياع القضية، على نحو ما جاء فى الموقف الأمريكى الذى تحول لتبنى الموقف المصري، خلال مباحثات الرئيس عبد الفتاح السيسي بنظيره الأمريكي جو بايدن فى نهاية اكتوبر الماضى، حيث ناقش الزعيمان- بحسب البين الرسمي للبيت الأبيض والرئاسة المصرية- ضمان عدم تهجير الفلسطينيين من غزة إلى أي مكان، فيما أكد الرئيس الأمريكي رفض الولايات المتحدة لنزوح الفلسطينيين خارج أراضيهم، معرباً عن التقدير البالغ للدور الإيجابي الذي تقوم به مصر والقيادة المصرية في هذه الأزمة، بالاضافة إلى الموقف الفرنسي أيضا الذى تبنى وجهة النظر المصرية والمبنية على بمدأ حل الدولتين لضمان أمن واستقرار المنطقة... لكن هيهات أن يري العدو أمنه فى الاستقرار ولايزال العدو الإسرائيلى يحيك الدسائس والمؤامرات لكن للوطن درعا وسيف ورب يحميه.