حالة من التقاعس الدولى فى مواجهة الانتهاكات الصارخة التى يشهدها قطاع غزة، من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلى، تجلت فى أبهى صورها، فى حالة من الازدواجية تجاه العديد من المبادئ التى طالما تشدق بها الغرب فى مواجهة خصومه، فيما يتعلق بالقيم الإنسانية، فى حين تجاهلها تجاه آلاف المدنيين الذين سقطوا بآلات الاحتلال العسكرية، جراء قصفهم دون أن يقترفوا ذنبا، وهو ما يعكس حقيقة فشل المنظومة الدولية فى صورتها الحالية، فى التعامل مع الأزمات الكبرى، وهو ما سبق وأن واجهته فى مواقف سابقة، وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية، وقبلها أزمة الوباء والتغيرات المناخية، والتى دفعت نحو تداعيات كارثية بات يعانى منها العالم، خاصة على الصعيد الاقتصادى.
المشهد الدولى المنحاز للاحتلال الإسرائيلى ربما ليس جديدا على الإطلاق، وإنما يبقى التنافر الكبير، داخل المؤسسات الدولية الكبرى، أحد أبرز العلامات على اقتراب النهاية للحقبة الدولية الراهنة، فى ضوء عجز النظام العالمى عن الوصول إلى تهدئة، من شأنها التقاط الأنفاس تمهيدا للتفاوض حول العديد من القضايا، سواء المرتبطة بالعدوان الحالى، على غرار ملفات الأسرى والأجانب، والمساعدات وغيرها، أو تلك المرتبطة بالقضية برمتها، فى إطار المساعى لتحقيق "حل الدولتين" باعتباره السبيل الوحيد للانتصار للشرعية الدولية.
ولعل المشهد داخل أروقة الأمم المتحدة، بمثابة دليلا دامغا على الأوضاع التى آل إليها المجتمع الدولى برمته، فى ظل امتلاك حفنة من الدول للقرار الدولى، وتوجيهه نحو خدمة أجنداتها، حتى وإن ارتبطت بانتهاكات تندى لها الأجبان، على غرار ما تشهده غزة، على حساب العدالة، والقيم الإنسانية، وهو ما يبدو فى فشل مجلس الأمن فى استصدار قرار لإعلان وقف إطلاق النار فى القطاع المحاصر بالقصف، وهو ما يمثل رضوخا لآلة القتل الإسرائيلية التى ترغب فى المزيد من دماء الأطفال والنساء العزل، وذلك بالرغم من ارتفاع حصيلة الشهداء إلى أكثر من 11 ألف.
الفشل الأممى الكبير لم يتوقف على مجرد الوصول إلى وقف إطلاق النار، وإنما أيضا فى احتواء التنافر فى المواقف الدولية، وهو ما بدا فى موقف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، والذى كال الانتقادات للاحتلال الإسرائيلى، بل ولم تقتصر كلماته على مجرد "إدانة" العدوان الحالى، وإنما امتدت إلى ممارسات الاحتلال التى طالت لعقود طويلة، موضحا أن الشعب الفلسطينى يتعرض لاحتلال مستمر منذ أكثر من 75 عاما، ورأوا أراضيهم تلتهمها المستوطنات وتعانى العنف، خُنِقَ اقتصادُهم، ثم نزحوا عن أراضيهم، وهُدمت منازلهم، وتلاشت آمالهم فى التوصل إلى حل سياسى لمحنتهم، وهى الكلمات التى نزلت كالصاعقة على دوائر السلطة فى إسرائيل، إلى حد مطالبتهم باستقالته.
كلمات جوتيريش تبدو محاولة لتبرئة ساحته من الدماء التى سفكت على أرض غزة، على مدار أكثر من شهر، دون رادع، وهو ما يمثل اعترافا ضمنيا من الرجل بعجز المنظومة الدولية فى احتواء الصراع، وعدم قدرتها فى ظل "أحادية" المشهد العالمى، على التعامل مع الأزمات المستقبلية، وهو ما يعكس الحاجة الملحة إلى تحقيق قدر كبير من الإصلاح بما يتواكب مع التغيير الذى تشهده الحالة الدولية، جراء صعود قوى جديدة يمكنها المساهمة بفاعلية فى التعامل مع الأوضاع الطارئة التى يشهدها العالم.
الانقسام داخل أروقة الأمم المتحدة بدا واضحا فى دعوة الصين إلى وقف إطلاق النار، وتأمين وصول المساعدات، فى الوقت الذى رفضت فيه واشنطن المقترح، وهو ما يعكس هشاشة الحالة الدولية تحت المظلة الأممية فى اللحظة الراهنة، وعدم قدرتها على مواجهة أزمات تبدو ممتدة زمنيا وجغرافيا، فى مرحلة تبدو حساسة للغاية جراء التشابك الكبير فى الأزمات التى يشهدها العالم، بين الصراعات الدولية والإقليمية، وحالة الصراع مع الطبيعة، والتى تمثل هى الأخرى تهديدات صارخة للكوكب بأسره، فى ضوء تحول المنظومة الأممية إلى أحد جبهات الصراع بين القوى الكبرى المتنافسة على قمة النظام الدولى.
وفى السياق نفسه، شهد مجلس الأمن الدولى صراعا أمريكيا روسيا، حول الأزمة فى غزة، عندما تبادلا استخدام الفيتو لمجابهة مشروعات قرارات تقدمت بها كلا الدولتين، حيث اقترحت واشنطن إدانة الفصائل الفلسطينية، بينما دعت موسكو لوقف إطلاق النار لأسباب إنسانية.
وهنا يمكن القول بأن المشهد الدولى يمكن اختصاره داخل أروقة الأمم المتحدة، حيث تبقى حالة الانقسام مهيمنة على العالم فى مواجهة الأزمات وفى القلب منها العدوان على قطاع غزة، بينما يدفع ألاف البشر ثمن الصراعات بين القوى الكبرى، وهو ما يثبت الحاجة إلى إصلاح المنظومة برمتها حتى يتسنى لها القيام بدور أكبر فى إنقاذ العالم مما يلاحقه من أزمات كبرى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة