يبدو ترحيل سكان قطاع غزة، بمثابة الرهان الأهم، للحكومة الإسرائيلية، والانتصار الحقيقي الذي تبحث عنه، بعيدا عن الأهداف المعلنة، والتي تدور في معظمها حول استهداف الفصائل الفلسطينية، أو الانتقام من أحداث "طوفان الأقصى" تحت ذريعة "الدفاع عن النفس"، وهو الأمر الذي تجلى في العديد من المشاهد، ربما أبرزها توقيت إطلاقها مع بداية العدوان من جانب، ووحشية القصف، عبر استهداف المدنيين ومنشآتهم، وفي القلب منها المستشفيات ودور العبادة من جانب آخر، بينما تبقى حملة التجويع جانبا ثالثا، في ظل المحاولات المستميتة التي بذلتها سلطات الاحتلال لمنع دخول المساعدات الإنسانية، ومحاولة حشد الضغط الدولي، في هذا الإطار، وهو ما عجزت عن تحقيقه، بفضل الجهود الكبيرة التي بذلتها الدبلوماسية المصرية، ومن ورائها القوى الإقليمية الكبرى.
ولعل مسألة الترحيل قد دخلت في منعطف جديد، مع دعوات جديدة، تم إطلاقها داخل أروقة الكنيست الإسرائيلي، بتهجير سكان القطاع المحاصر إلى أوروبا والولايات المتحدة، وهو ما يعكس هزيمة في معركة الدولة العبرية مع الإقليم، وتحديدا دول الجوار، إلا أنها مازالت تخوض حربها حول الرهان الأكبر، والذي يدور في الأساس حول تصفية القضية، وتقويض حل الدولتين، وفي القلب منه تأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة، على حدود الرابع من يونيو، وعاصمتها القدس الشرقية، عبر استغلال الزخم الناجم عن العدوان الراهن، لتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية، من خلال تفريغ الأرض من سكانها، مما يمهد الطريق أمامها للمزيد من السياسات التوسعية.
الحديث عن ترحيل سكان غزة إلى أوروبا والولايات المتحدة، واللذين يمثلان الحليف الأقوى والأهم لإسرائيل، منذ عقود طويلة من الزمن، يعكس محاولة صريحة لتصدير أزمة للغرب الداعم لها، في أعقاب تغيير كبير وملموس في المواقف الدولية، خلال الأيام الماضية، تجلى في المطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار في القطاع، وهو ما يمثل صفعة كبيرة للاحتلال، في لحظة تبدو حاسمة، في تاريخ الصراع، خاصة وأن القوات الإسرائيلية مازالت لم تحقق أي نجاح، سواء فيما يتعلق بالقضاء على الفصائل، أو ملف الأسرى المحتجزين لديهم، مما أسفر عن حالة من الغضب الشعبي في الداخل، وذلك بالرغم من حجم الدمار والانتهاكات التي ارتكبتها في القطاع، والتي ترقى إلى مرتبة "الإبادة الجماعية" طبقا لقواعد القانون الدولي.
الدعوة الإسرائيلية الأخيرة، تمثل محاولة للضغط على الغرب، سواء في أوروبا والولايات المتحدة، في ظل توقيتها، خاصة وأن حكومات أوروبا الغربية تسعى إلى تخفيف الضغوط الناجمة عن التدفق الكبير للاجئين إلى أرضيهم، في ظل اقتراب دائرة الصراع الدولي من مناطقهم الجغرافية، جراء الأزمة الأوكرانية، ناهيك عن تزايد نطاق الهجرة غير الشرعية، وكذلك الولايات المتحدة التي تسعى خلال الأشهر الماضية إلى تضييق الخناق على القادمين إليها دون اتباع المسارات الأمريكية، وهو ما يعكس رغبتها في احتواء أعداد القادمين إليها، في ظل تغييرات كبيرة على الصعيد العالمي، جراء الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يشهدها العالم.
ولكن بعيدا عن محاولات الدولة العبرية لتصدير أزمة إلى حلفائها لإجبارهم على مواقف أكثر انحيازا لصالحها، فإن الدعوات الجديدة تعكس "حزمة" من الانتصارات التي حققتها الدولة المصرية في إطار إدارتها لأزمة غزة خلال الأسابيع الماضية، أولها قدرتها الكبيرة في تغيير وجهة المواقف الدولية بوتيرة سريعة، عبر التحول في الخطاب الغربي من الانحياز المطلق لإسرائيل تحت ذريعة "الدفاع عن النفس"، والتي هيمنت على مواقف الغرب في أعقاب العدوان مباشرة إلى الدعوة إلى "التهدئة"، في أعقاب قمة القاهرة للسلام، واللقاءات التي أجراها الرئيس عبد الفتاح السيسي مع زعماء العالم، بينما تحولت المواقف مرة أخرى نحو الدعوة لـ"وقف إطلاق النار"، في أعقاب القمة العربية الإسلامية في الرياض، بعدما أظهرته من "صمود" إقليمي، في مواجهة محاولات "إعادة تدوير" الفوضى في المنطقة.
وتعد كلمة الرئيس السيسي خلال القمة منعطفا مهما في تحول المواقف الدولية، عبر تعزيز ثوابت القضية الفلسطينية، وهو التأكيد على ما أرسته قمة "القاهرة للسلام"، والقائمة على حل الدولتين، ورفض دعوات التهجير من جانب، بينما امتدت إلى الدعوة إلى إجراء "تحقيق دولي" من شأنه تحقيق العدالة بحق من ارتكبوا الانتهاكات بحق المدنيين العزل، مما أسفر عن مقتل آلاف البشر، معظمهم من النساء والأطفال.
وهنا يمكن القول بأن تحويل بوصلة الدعوات الإسرائيلية، فيما يتعلق بالترحيل من دول الجوار، إلى الغرب الأوروبي والولايات المتحدة، بمثابة انتصار مهم للدبلوماسية المصرية، ومن ورائها الإقليم بأسره، على مسارين رئيسيين أولهما فيما يتعلق بتغيير المواقف الدولية نحو قدر من التوازن، بعد الانحياز المطلق للاحتلال، وبالتالي كانت المحاولة الإسرائيلية للضغط على الحلفاء لتصدير أزمات جديدة لهم، من جانب، بينما تمثل نجاحا منقطع النظير في حماية الإقليم والحفاظ على المكتسبات التي تحققت في ظل حالة من "الصمود" في مواجهة الضغوط، بعد سنوات الهشاشة التي أعقبت "الربيع العربي".