"أمك هى جيشك الوحيد" فحينما يتخلى عنك الجميع، ويرفض مد يد العون والمساعدة تظهر هى كداعم ومساند وحامى لأولادها، تعمل على تذليل العقبات وتمهد الطريق من أجل الوصول بهم إلى بر الأمان دون النظر إلى طاقتها التى تستنزفها أو قدرتها الصحية التى تقل يوما عن الأخر فى سبيل رعاية أبنهائها، لذلك لا توجد كلمات توفى قدرهن، أو تعبر عن المجهود الذى يبذلنه فإذا كانت كل أم تستحق تاجا من التوقير والحب والإعزاز.
فإن أمهات الأطفال من ذوى القدرات الخاصة، بصفة عامة، يستحققن وساما إضافيا على قدر تضحياتهن والمعاناة التى مررن بها، فلم تكن الرحلة سهلة أو العقبات التى نجحن فى التغلب عليها قليلة، وعبور كل الحواجز سواء منذ لحظة الولادة، وهى التى وصفوها «بالصدمة الأولى»، بعد معرفة أن أولادهن من ذوى القدرات الخاصة، خوفا من نظرات أو عبارات تنمر تمنعهم من الاندماج فى المجتمع بشكل كامل وطبيعى أو محاولات التشكيك فى قدراتهم التى آمنّ بها وعملنّ على البحث عن مواهبهم وملكاتهم المختلفة وتنميتها فى المجالات المختلفة، سواء كانت فنية أو رياضية لتكلل جهودهن بالنجاح فى أن يتحول أبنائهن إلى أبطال حقيقيين لقصص وحكايات نجاح تستحق أن تروى.
ومنها ما تمت مشاهدته من فريق ذوى القدرات الخاصة داخل معهد الباليه بأكاديمية الفنون التى تحولت إلى صورة جمالية وبهجة حقيقية بفضل هذه الوجوه الملائكية الصغيرة التى ملأت جنباتها، فمبجرد عبور البوابة الحديدية للأكاديمية كان هناك العديد من الأمهات يمسكن بهذه اليد الصغيرة يسرعن بهم نحو قاعات التدريب المخصص لفريق ذوى القدرات الخاصة المكون من الفتيان والفتيات لتلقى التدريبات على يد أساتذة متخصصين من المعهد، ومن بين العديد من أمهات المتدربين تم اختيار أسرتين.
قام «اليوم السابع»، بعمل معايشة كاملة معهما داخل منزليهما، ورصد حياتهما اليومية من المنازل وصولا لقاعات التدريب، قبل الاسترسال فى هذه المعايشة يجب الإشارة إلى أننا كنا نتمنى إجراء معايشة منفصلة لتسليط الضوء على مجهود كل أم تجاوزت وتحملت الكثير وساندت حتى استطاعت الوصول بابنها أو ابنتها المنتمية لذوى الهمم لهذه القاعة «قاعة الباليه بأكاديمية الفنون» التى لا تضم سوى المتميزين ليصبحوا راقصين محترفين تتم الاستعانة بهم فى حفلات الأوبرا واحتفالات العديد من الجهات الرسمية الأخرى.
«مريم - فرح» بمجرد أن تدخل قاعة التدريب لا تملك سوى أن تترك نفسك وتسرح مع هاتين الفتاتين من أصحاب الوجه الملائكى فهما قادرتان على جذب الانتباه حتى قبل أداء الحركات من خلال ابتسامتيهما التى لا تفارق وجهيهما والروح الصافية الودودة، فضلًا عن مهارتيهما فى أداء الرقصات المختلفة بخفة ودقة، والانتقال من حركة لأخرى بمنتهى السلاسة والرشاقة كأنهما فراشتين تسبحان فى الهواء بين الأغصان، وأداء الرقصات التى تحتاج إلى توافق عضلى عصبى بالغ الدقة، ومنها «كسارة البندق، وبحيرة البجع» وغيرها من أيقونات الرقص الكلاسيكى المعتمد على أداء وتناغم حركى عصبى شديد الاحترافية مما يبرهن على المستوى المتميز الذى وصلتا إليه بجانب إتقانهما للعديد من الرقصات الأخرى التى يشتهر بها التراث المصرى.
كانت البداية من منطقة الهرم بمحافظة الجيزة مع «أم فرح» كما تحب أن يطلق عليها، ومصدر فخر لها وللأسرة كلها بفضل تفوقها فى الباليه، وحصدها العديد من التكريمات والجوائز والاستعانة بها فى العديد من العروض التى تنظمها دار الأوبرا وغيرها من الجهات الأخرى، حتى استطاعت مؤخرًا لفت نظر عدد من المخرجين والفنانين وعلى رأسهم الفنان أشرف عبدالباقى ومشاركته فى مسرحيته «كنز الدنيا» بمشاركة آخرين من ذوى الهمم.
فرح 17 عاما، هى الشقيقة الصغرى لعدد اثنين من الأخوة «مى» بكالوريوس زراعة، و«عبدالرحمن» طالب بكلية الهندسة بحسب والدتها التى تقول: «مررت بالعديد من المشاعر منذ ولادة فرح، فخلال شهور الحمل كانت المتابعة العادية والفحوصات ولم يكن هناك أمر استثنائى يشير إلى أن المولود من أصحاب الهمم ولكن تم التعرف عليها بعد الولادة عبر الطبيب الذى قام بإخبار أسرتى بأن المولود يحتاج إلى رعاية خاصة لأنه ينتمى إلى أطفال داون وهو ما سعت أسرتى إلى إخفائه عنى فى البداية لمدة 10 أيام، وعلمت بالمصادفة خلال إجراء فحوصات بعد الولادة من إحدى الطبيبات.
صدمة.. وإنكار.. «مش ممكن ماعندناش حد كدة».. هى العبارة التى ظلت ترددها والدة «فرح» للطبيبة التى كشفت لها أن ابنتها من مواليد «داون»، مقترحة عليها إجراء بعض التحاليل والفحوصات داخل مستشفى الدمرداش للتأكد من حالة المولود.
وتقول الأم: «أسرعت بابنتى إلى المستشفى برغم حالة الإرهاق التى كنت عليها وقمت بإجراء العديد من الفحوصات لها والتحاليل وكان علىّ انتظار النتيجة بعد 30 يومًا ولكن نظرًا لحالة الترقب التى كنت عليها لم أستطع انتظار هذه المدة وقمت بإجراء التحاليل فى أحد المراكز الخاصة التى أكدت شكوك الطبيبة بأن المولود حالة «داون» وهى نفس النتيجة التى تطابقت مع تحاليل مستشفى الدمرداش.
وتتابع الأم: «مثل ذلك فى البداية صدمة حقيقية وانهيارا كاملا ليس اعتراضا على إرادة الله، ولكن مجموعة من التساؤلات عن التعليم، أو الصعاب التى ستواجهها سواء من نظرة المجتمع لها وإمكانية تقبله لها كفرد طبيعى دون شفقة أو التعرض لنظرات التنمر».
تجاوز المحنة.. وتحولها لمنحة.. بعد فترة من الوقت بدأت من التعافى والنظر للأمر بشكل مختلف من خلال الوجه الملائكى لفرح، وشعرت بقذف محبتها فى قلبى وعملت على رعايتها، وانتبهت إلى أننى إذا أردت أن يعاملها المجتمع كطفل طبيعى فلتكن البداية من عندى، لذلك علىّ التقديم لها فى نفس المدرسة التى كان يدرس أشقاؤها، ووجدت هناك تعاونا وحبا كبيرا وتفهما من قبل المعلمين، فضلًا عن الاهتمام بموهبتها والتى اتضحت فى حبها لرقص الباليه وبالفعل تقدمنا إلى الاختبارات وتم قبول «فرح» للدراسة والانضمام لصفوف ذوى القدرات الخاصة فى معهد الباليه بأكاديمية الفنون التى أظهرت فيه تميزا وتفوقا واضحا بشهادة القائمين على التدريب من أساتذة المعهد ومنهم «الدكتور حسن، والدكتور حازم».
الباليه.. وتقول والدة فرح: «كانت فرحتى شديدة بقبول ابنتى فى معهد الباليه وشعرت معها بالتميز، وأن ابنتى متميزة وتؤدى عملا استثنائيا خاصة بعد إشادة أساتذة بها وإتقانها للعديد من الرقصات والاستعانة بها فى العديد من العروض على مسرح الأوبرا، والعديد من الأعمال الفنية الأخرى وحصولها على العديد من التكريمات، وهو الأمر الذى انعكس على شخصيتها وعزز من ثقتها بنفسها والقدرة على مواجهة الجمهور حتى صارت «فرح» اسما على مسمى فى حياتى، مصدر فرحتى وفخرى ليس فقط لتفوقها فى الباليه، وإنما كابنة لا تعرف سوى الحب وتجلب السعادة لمن حولها فهم ملائكة على الأرض.
مريم.. الحب قادر على تغيير شخصيتك وتغييرك للأفضل، قد يكون ذلك ما عايشته والدة «مريم» بشكل حقيقى والتى كانت تتسم شخصيتها بالحدة المفرطة والعزلة حتى مع الدائرة القريبة منها، سواء الأهل والأقارب أو زملاء العمل.
وتقول والدة «مريم»: «أعمل معلمة تعليم أساسى بإحدى مدارس المرحلة الابتدائية بمنطقة كرداسة التابعة لمحافظة الجيزة، كنت فى الماضى شخصية جافة غير اجتماعية أتسم بالحدة فى علاقاتى مع الآخرين على اختلاف علاقاتهم بى سواء أهل، أقارب، زملاء العمل وصرت على ذلك منذ طفولتى وحتى بعد ولادة أبنائى إلى أن ظهرت مريم فى حياتى ومعها تغير كل شىء فصرت أنظر للأمور بقلب الأم».
لم يكن ذلك التغيير سهلا أو مفاجئا وإنما عبر مراحل ورحلة مع «مريم» بدأت بالمعاناة ورفض وجودها وإخفائها فى البداية، إلى التمسك بها وأصبحت مصدر الحب والفرحة فى حياتها لدرجة التنازل عن لقبها «ميس نجلاء» والتمسك بلقبها الجديد بـ«أم مريم» حتى بين زملائها وجيرانها بعد التغيير الواضح الذى أحدثته «مريم».
ولكى يتم التعرف على هذه التحولات كان لا بد من العودة مع «أم مريم» للوراء عدة سنوات منذ شعورها ببعض المتاعب التى بدأت مع ذهابها للطبيب الذى أخبرها بأنها حامل، وهو الأمر الذى مثل مفاجأة لها خاصة مع اقترابها من سن الـ40، واقتراب أولادها الآخرين من سن الشباب.
وتقول والدة «مريم»: «بعد ولادة مريم أصبت بنوبة من البكاء لا زلت أتذكر تفاصيلها حتى هذه اللحظة بعدما أخبرنى الطبيب بأن ابنتى من ذوى القدرات الخاصة وتحديدا من متلازمة داون كان الأمر فى البداية بمثابة الصدمة لى فلم تكن هناك أى خبرة لى وعملت على إجراء العديد من الفحوصات على أمل تكذيب تشخيص الطبيب ولكن التحاليل جاءت متطابقة ومؤكدة لفحص الطبيب».
مريم والعزلة.. وتتابع والدة مريم: «لم أتقبل النتيجة وعشت أياما فى حالة من الانهيار والبكاء ولتجاوز هذه المرحلة حاولت إقناع نفسى بأنها غير متواجدة، وبالفعل كنت أتركها فى رعاية شقيقيها والتى استأثرت بحبهما ورعايتهما «محمد»، و«نهى» التى كانت بمثابة أمها الثانية أو الحقيقية حتى بلوغ «مريم» سن السادسة فكانت تتولى أمور تغذيتها وملابسها ومتابعة الدراسة معها ولدرجة أننى لم أعلم تفاصيل عن ابنتى إلا بعد وصولها لسن الخامسة مثل أكلاتها المفضلة، وإنها «عسرى» لا تكتب سوى باليد اليسرى.
التغيير.. «هنعمل إيه مع بعض؟» بهذا التساؤل توجهت نجلاء إلى ابنتها «مريم» بعد زواج ابنتها الكبيرة نهى التى كانت تتولى رعاية شقيقتها الصغرى ورفع عبء مسؤوليتها عن الأم.
وهو ما تقول عنه الأم «نجلاء»: «عشت سنوات متجاهلة ابنتى ليس نفورا منها بقدر ما هو خوفا على حالها والخشية من مصير مجهول قد تتعرض له فكنت كلما أنظر لها لا أشعر سوى بدموع تتساقط من عينى بشكل متسارع وبدون توقف، ولكن بعد زواج «نهى» التى كانت تتولى رعايتها فوجئت باحتضانى لها ومحبة كبرى لها كانت متواجدة لها بقلبى وانكشفت بمجرد احتضانى لها وصرت لا أطيق الابتعاد عنها سوى لحظات معدودة فنحن متلازمتان على الدوام أقضى معها كل يومى باستثناء ساعات عملى فى المدرسة فقد أسرتنى بروحها الطيبة المحبة».
وتضيف والدة «مريم»: «وهو ما انعكس على شخصيتى والتى استمديت منها حب الناس وكيفية التعامل معهم بود فهى التى علمتنى ذلك فأنا مدينة لها لذلك تتنابنى الدهشة عند مقارنة حالى برفضى لها فى البداية بتعلقى بها الآن، وبين محاولة إخفائى لها عن الجيران إلى فخرى بها فهى مصدر سعادتى وفخرى فهى السبب فى تغيير شخصيتى للأفضل، وهو الأمر الذى لاحظه كل من حولى سواء من ابتسامة دائمة والود الذى أتعامل به مع الأقارب والزملاء والطلاب، بجانب تكريمى من العديد من الجهات وارتياد عدد من الأماكن التى لم أكن أتصور دخولها مثل دار الأوبرا التى قدمت عليها «مريم» العديد من العروض والاستعراضات الخاصة برقصات الباليه التى تفوقت بها بعد انضمامها لفريق القدرات الخاصة بمعهد الباليه داخل أكاديمية الفنون، وإشادة الأساتذة بأدائها الراقى والاحترافى، مؤكدة «مريم» كنت متصورة أنها كسرتنى بس هى اللى رفعتنى وأنا مدينة لها».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة