أراد محمد على باشا «والى مصر» أن يقيم نظاما قويا ومتماسكا يدرب عليه جنوده، فاتخذ من الجيش الفرنسى مثالا ينسج على منواله فى إنشاء الجيش الحديث، حسبما يذكر الدكتور عبدالرحمن زكى فى كتابه «التاريخ الحربى لعصر محمد على الكبير».
جاء تأثر محمد على بالجيش الفرنسى فى سياق يذكره الدكتور خالد فهمى فى كتابه «كل رجال الباشا»، ترجمة، شريف يونس، قائلا: «لم يستطع أى إنسان عاش فى مطلع القرن التاسع عشر أن يفلت من تأثير نابليون وجيوشه التى اجتاحت القارة الأوروبية أو من الدمار والخراب الذى خلفه، ولا بد أن محمد على ذاته باعتباره رجلا عسكريا يعيش على حافة هذه القارة، كان متلهفا لمعرفة المزيد عن هذه الجيوش التى كانت حديث الساعة، وكان الباشا والحق يقال شديد الاحترام للإمبراطور، واعتاد متملقوه حتى فى حياته على إقناعه بأنه نابليون ثان، كما أمر فيما بعد بترجمة سيرة عن نابليون إلى التركية وطبعها فى مطابع بولاق الأميرية».
يضيف «فهمى»، أن محمد على حينما لجأ إلى تجنيد الفلاحين المصريين لبناء الجيش الجديد، اعتمد بشدة على المستشارين الفرنسيين فى إدارة جيشه وتدريب جنوده، وعلى رأس هؤلاء «الكولونيل سيف» المعروف بسليمان باشا الذى عينه محمد على عام 1820، وأصبح فيما بعد الرجل الثانى فى قيادة الجيش، لا يعلوه سوى إبراهيم باشا، كذلك فإن محمد على طلب المساعدة من القنصل الفرنسى العام فى مصر «دروفتى» فى أن يرشح له من يتولى تنظيم وتدريب جنود الجيش.
وحول هذه المسألة يذكر عبدالرحمن زكى أن محمد على كتب لابنه إبراهيم رسالة عام 1823 قال فيها: «لقد فكرنا فى استخدام رجل قدير يتولى تنظيم عساكرنا الجهادية وفقا للأصول العسكرية المقررة، ويكمل النقص فى الأنظمة القائمة الآن ويرفع التعليم والشؤون الأخرى على الوجه المطلوب، وقد تحدثنا فى هذا الموضوع إلى صديقنا الخواجة دروفتى قنصل فرنسا عندما جاءت مناسبة، فكتب جنابه بدوره عن فكرتنا هذه إلى الجنرال الذائع الصيت المعروف باسم «بوييه» أحد جنرالا بونابرت الذى سيصبح بعد رتبة واحدة مارشالا والذى حضر مع بونابرت أكثر حروبه، وقد استوضحنا القنصل مقدار المكافأة التى تمنح للجنرال فيما إذا حضر.
ثم جاء فى الخطاب الذى أرسله الجنرال المذكور أنه سيحضر وفى حال حضوره سيقطع عنه الإيراد المقرر له من حكومته وأبان القنصل أن هذا الإيراد لو اشترى لبلغت قيمته مائة ألف ريال على الأقل وأنه يجب أن يخصص له 25000 قرش شهريا ولكل من معاونيه ثلاثة آلاف ريال سنويا، وإن هذه المبالغ ليست بالشىء المرهق إزاء رفع مستوى مصالحنا إلى الحد المطلوب ووصولنا إلى غايتنا، ولكن هل الجنرال المذكور هو فى الواقع كما قيل عنه؟ فإذا كانت شهرته قد بلغت إلى هذا الحد فلا بد أن يعرفه الإفرنج الذين معكم وعليه استوضوحهم أمر هذا الجنرال بطريقة مناسبة».
يسجل عبدالرحمن زكى مفارقة وهى أنه بينما كان محمد على يبحث عن أشهر المدربين وأقدرهم فى أعلى الأوساط العسكرية فى فرنسا، كان أولو الأمر فى الآستانة يسألونه أن يبعث إليهم بمدربين وطنيين من قواده لتدريب شؤون الجيش فيها، ويضيف، أن الجنرال بليار وكان أحد القادة الفرنسيين فى المعاش، كما كان أحد قواد الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، اختار الجنرال البارون بوييه ليكون رئيسا لبعثة عسكرية تنظم جيش محمد على الجديد، ومعه كولونيل المشاة جودا قائد الآلاى السابع والعشرين فى حرب البرتغال وكان من أكفأ المدربين العسكريين، والشقيقان أدولف وبولان دى تارليه، وكان أولهما قائد كتيبة وثانيهما يوزباشى فى الخيالة، وبعض ضباط آخرين وطبيب، وتطوع ليفرون للعمل بصفة شبه رسمية وكان يلم بأشياء كثيرة، واكتسب فيما بعد ثقة الباشا وعينه مندوبا عنه لدى الحكومة الفرنسية بدلا من ضابط آخر».
يؤكد «زكى» أن «بوييه» وصل إلى الإسكندرية مع معاونيه فى 24 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1824، وكان يستصحب هدايا ثمينة من أسلحة وذخيرة، فلما قدمها للباشا تأثر كثيرا من عطف الحكومة الفرنسية، وقال: بعد تجربة إن البارود أحسن نوعا من الذى استورده من إنجلترا.
يضيف «زكى»: «حل الجنرال بوييه بالقاهرة حيث سكن فى قصر فخم بالروضة خصص لإقامته وليكون أيضا مقرا للرئاسة العامة للبعثة، وفى هذا القصر استهلت الأعمال الأولى لمشروعات الجيش وطرائق تدريبه، وجرى الاتفاق على أن يتصل بنفسه مع الباشا للتفاهم فى كل ما يراه من آراء وما ينتهجه من خطط».