أمام أنوالٍ خشبية عتيقة، تتشابك فيها خيوط زاهية ألوانها بين الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر، يتوسطها معلقات جدارية يعود تاريخ إحداها إلى سنة 1990م، وأكوام من خيوط الصوف مختلطة أنفاسه برائحة الطبيعة داخل منزل بقرية الحرانية بمحافظة الجيزة، يطل "سيد ونوارة" من منزلهما الذي طغت على كل ركن من أركانه روح الفن والإبداع في الثامنة صباح كل يوم بوجهيهما البشوش ومن حولهما أحفادهما، لينسجان بأناملهما قطعًا فريدة من السجاد، صانعين أشكالًا استثنائية مثّلت على الدوام تحفًا فنية فاخرة يرمقها الناظر بعين الإعجاب لما تمثله من تراث لا يقدر بثمن ليس بفضل تصميماتها وألوانها فقط، بل مع الأدوات اليدوية الحرفية الخاصة المستخدمة في حياكتها يدويًا.
أعمال سيد ونوارة من السجاد اليدوي
سيد ونوارة
سيد ونوارة يبدعان في تصنيع السجاد اليدوي
بينما تدور عجلة الذكريات به مع كل مرة ينسج فيها خيوط السجاد، روى سيد محمود عوض صاحب الـ54 عامًا، رحلة عمله التي بدأها حين كان عمره 9 سنوات، حيث كان يذهب مع خالته وعمته إلى مقر عملهما بمدرسة "ويصا واصف" للفنون ويجلس بجوارهما يتأملهما بدأب، وأناملهما تلتف بالصوف على أوتار من خيوط القطن المشدود على النول، ممسكين بأداة حديدية تسمى "مشط" تساعدهما في كبس خيوط الصوف، بعضها فوق بعض، لترسمنا لوحة فنية مملوءة بنقوش وزخارف مستوحاة من الطبيعة، "لم أعرف مهنة سواها منذ نحو 45 عامًا، نمت الموهبة بفضل الفنان والمعماري رمسيس ويصا واصف، والذي جعل من الفن والإبداع مناخًا عامًا في القرية في الوقت الذي لم يكن فيها أي نشاط حرفي ويعمل معظم من بها في الزراعة، فكنت أذهب مع عمتي وخالتي للمدرسة وعمري لا يتجاوز الـ9 سنوات، كنت حينها في الصف الرابع الابتدائي، ألهو مع أبنائهم، وأجرب ما في المدرسة من فنون، كالباتيك والخزف والفخار والسجاد، كان إعجابي بالسجاد اليدوي يزداد يومًا بعد يوم، حيث كنت أتأمل صناعه، منبهرًا بالخيوط الملونة وما يصنعونه من سجاد مغزول بالأشجار والطيور، ومن حولهم عشرات الأطفال، الذين أصبحوا اليوم رجالًا ونساءً يمتهنون تلك الحرفة، حتى قررت تعلمها وكانت أول تجربة لي على نول صغير ولوحة لا يتجاوز عرضها 20سم، استمرت فترة تعلمي لنحو عام، كنت حينها أذهب في صباح كل يوم للمدرسة وأعاود لاستكمال عملي في تعلم فن تصنيع السجاد اليدوي، وبعد مرور عامين بدأ إنتاجي من السجاد يزداد ويصبح هناك دخل، فالتزمت ولم أصبح مجرد طفل يذهب للهو بل قادر على العمل والإنتاج، فشربت الحرفة، وأصبحت ماهرًا فيها تارة بالتوجيه وتارة بالفطرة".
السجاد اليدوي
السجاد اليدوي بالحرانية
الفنانة نوارة رضوان
وبينما كانت تتسامر مع ابنتها "عائشة"، تُعد بعضًا من الشاي على موقد صغير متنقل، وبجانبها لوحة فنية لم تكتمل خيوطها بعد إلا أنه يطغى عليها لونًا ذهبي، قاطعت نوارة رضوان صاحبة الـ51 عامًا، الحديث، موضحة أنها ابنة عمة "سيد"، التي كان يذهب معها للمدرسة، "تربينا سويًا في مدرسة رمسيس ويصا واصف، كنت أذهب مع أمي ومعنا "سيد"، وكنا نجرب ونحاول، حيث كانت أعمالنا في البداية مجرد "شخابيط" غير معبرة نغزلها على أنوال خشبية صغيرة، ومع مرور الوقت تعلمنا من الجيل الأول الذي تتلمذ على يد رمسيس ويصا واصف كيف نستوحي أفكارنا من الطبيعة، ونعبر عنها بالخيوط على أوتار النول، ونجحنا في غزل الخيوط بدقة وإتقان وإنتاج سجاد متكامل ذا هوية ريفية وخامات طبيعية، شاركنا به في معارض عالمية، فمعظمنا توارث الحرفة أبًا عن جد، حيث تعلم الجيل الأول على يد "واصف"، ثم علم المهنة لأبنائهم"، مشيرة إلى أنهم يغزلون الخيوط مع بعضها البعض بدون رسم مسبق، ويعبرون في اللوحة عما بداخلهم وما يدور في مخيلاتهم بمجرد أن يتأملوا الطبيعة من حولهم.
تصنيع السجاد على النول
سجاد يدوي
الفنان سيد محمود
رحلة طويلة من الكفاح والعمل والإبداع في صناعة السجاد اليدوي ابتدأها سويًا من مدرسة ويصا واصف وأكملاها في منزلهما برفقة أبنائهما وأحفادهما، ولازالت أعمالهما مميزة ومُبهرة، لا أعمال أخرى تضاهي رسوماتها ونقوشها وبراعة إتقانها، "استمريت في العمل بالمدرسة لنحو 40 عامًا، وبعدها قررت أن أستقل وزوجتي ومواصلة مسيرة التصنيع من داخل منزلنا، عالمنا الخاص الذي نصنع فيه كلًا على حده حتى وقتنا هذا السجاد اليدوي على النول، ندعم ونشجع ونستشير بعض دون أن يتدخل أحد في عمل الآخر، ففي النهاية كل واحنا منا ينقد عمله ويقيمه، للتحسين والتطوير، مضيفًا: "تصنيع السجاد في دمي، بالنسبة ليا فن اكتسبناه بالفطرة مش مهنة وبيع وشراء، بقول لأولادي دايمًا صناعة السجاد فن بقدر من خلاله أُبدع وأعبر عن أفكاري في عمل، أنا مكملتش تعليمي في جامعات وبالتالي صناعة السجاد هو علامي، بخرج فيه كل طاقتي، وبحس إني في عالم تاني وانا شغال، والفن ده اكتسبناه بفضل رمسيس ويصا واصف، واللي دايمًا كان بيشجعنا على الإبداع مكررًا في نصائحه: ابدع وعبر عن كل اللي جواك من غير ما تنبهر بعمل غيرك، أو تنتقده وتدخل فيه، وفي النهاية شغلك هيعجب الناس ويعجبك"، وهو ده نهجنا في العمل".
سيد محمود
سيد ونوارة يبدعان في تصنيع السجاد بقرية الحرانية
سجاد يدوي من وحي الطبيعة
أشجار، ورود، أنهار، بحار، جبال، طيور.. جميعها أفكار مستوحاة من الطبيعة، يعبرون عنها في لوحات فنية مميزة مرتبطة بالبيئة المحيطة، معتمدين على ذاكرتهم في تصور المنظر، وحسهم الإبداعي النابع من الفطرة والقائم على الطبيعة وخامات هي أيضًا من الطبيعة ونهج الفنان رمسيس ويصا واصف، والذي آمن بأن لدى كل طفل قدرة إبداعية كامنة، "يبدأ عملنا بتجهيز الخيوط وصبغها معتمدين على الألوان المستخرجة من أنواع محددة من النباتات، ونقوم بمعالجة هذه الألوان معالجة طبيعية حتى تحتفظ بزهوتها وجودتها مدى الحياة، حيث نقوم بشراء خيوط الصوف المغزولة بألوانها الثلاثة "الأبيض والأسود والبني"، وما نحتاجه من ألوان طبيعية أخرى، نحصل عليه من الصبغات النباتية الطبيعية كـ"الفوة" التي تعطينا اللون الأحمر، والصبغة الصفراء.
سيد ونوارة يبدعان في تصنيع السجاد بقرية الحرانية
سيد ونوارة يصنعان السجاد على النول
غزل الخيوط على النول الخشبي
بالإضافة إلى "النيلة"، والتي نستوردها من خارج مصر، وذلك بغليها في درجة حرارة محددة حتى نحصل على درجات الألوان التي نحتاجها، وقبل أن نصبغ الصوف نقوم بغليه أولًا في "الشبة" في درجة حرارة عالية، حتى يصفي ما فيه من دهون وتتفتح مسامه وتكون خيوطه قادرة على امتصاص الصبغة عند "نقعها" فيها، ومع صبغ الخيوط يتم إضافة مواد معالجة لمقاومة الـ"عتة"، أما النول فيتم تجهزه بتثبيت الخيوط القطنية فيه، والتي يتم نسج السجاد عليها، وبالنسبة للرسمة وتحديد فكرتها، فقد تعبر عن البيئة الريفية وكل ما فيها من تفاصيل كالزراعة والنيل ومراكب الصيد، أو قصص حكاها لنا آبائنا وأجدادنا ونعبر عنها بفكرنا وخيالنا وطريقتنا الخاصة"، "مستشهدًا بلوحته التي بدأ في تنفيذها عن زهرة بنت القنصل"، فنعتمد في غزل النسيج على خيالهم وأناملهم وأدوات تتمثل في "مشط" ومقص وصوف مختلف ألوانه، وبمجرد أن نستقر أمام الأنوال نبدأ في غزل الخيوط مع بعضها البعض حتى تكتمل لوحاتنا"، مشيرًا إلى أن اللوحات الفنية اليدوية قد يستغرق تنفيذها عامًا كاملًا من عمر الفنان.
غزل خيوط الصوف على النول
مراحل تصنيع السجاد اليدوي بالحرانية
"شغلنا طالع من القلب فبيوصل للقلب".. بهذه الكلمات تابع سيد محمود عوض، حديثه: "صناعة السجاد اليدوي تاريخ وإرث ثمين، أحرص على أن أحافظ عليه مع زوجتي حتى أورثه لأحفادي"، مشيرًا إلى أنه فنى حياته يصنع وينتج السجاد اليدوي، غير عابئ بما يتكبده من جهد وعناء، رافضًا أن يوقف رحلة كان قد بدأها وقرر أن يواصل فيها حتى آخر رمق"، عائدًا بالذاكرة للوراء: "أحلى لحظة في حياتي وكل ما بافتكرها بحس بالفخر، إن في مرة بعت سجادة لسيدة في كندا وبعد مرور 5 سنين اتفاجئت إنها بعتالي رسالة كاتبة فيها إنها كل ما بتتأمل اللوحة بتشعر إن الحياة لسه جميلة".
اختارت "نوراة"، اللون الأزرق والأخضر والأصفر بدرجاته، منشغلة في عملها، تمرر الخيوط من بين "السدية"، خيطًا تلو الآخر، لتبدأ الرسمة في الظهور "الكثير من الغنم والأشجار والورود": "كنت أذهب مع والدتي منذ نعومة أظافري لمدرسة السجاد، ألهو أسفل الأنوال، غير آبهة بما تصنعه، ومعها الكثيرات من نساء القرية، الجميع كان منشغلا أمام النول الخشبي وحوله أكوام من الخيوط مختلفة ألوانه، مع مرور الوقت تحول اللهو لرغبة في التعلم والتجربة، وتطورت رسوماتي وبدأت أنتج سجادًا مختلف الشكل والأحجام"، مضيفة: "مش واخدة صناعة السجاد مهنة أكسب منها فلوس، هي بالنسبة ليا فن بحبه وبعبر فيه عن نفسي وبطلع فيه كل اللي جوايا، حاجة أنا حباها، كانت شاهدة على كفاحي مع "سيد"، فماكنش عندنا بيت مستقل في الأول، كافحنا وساعدنا بعض واشتغلنا لحد ما جبنا البيت وجوزنا عيالنا الحمدلله، ومش عاوزة أدفن فني اللي تعبت فيه 30 سنة وأكتر، فهو في الآخر ذكرى مني هسيبها لأولادي".