فى غضون أشهر قليلة، وليس سنوات، بات الذكاء الاصطناعى مهيمنا على كافة مناحى الحياة باستخدامات هائلة فى الخير والشر على حد السواء. فما بين تحسين حياة الكثيرين حول العالم بدور فعال فى مجالات الصحة والتعليم والزراعة وغيرها وصولا إلى دور متنامى فى المجال العسكرى، أصبحت هذه التكنولوجيا الناشئة الشغل الشاغل للحكومات والجماهير من مشارق الأرض إلى مغاربها.
وفى الوقت الذى يشهد فيه العالم حربين ضاريتين، الأولى بين روسيا وأوكرانيا والثانية تشنها إسرائيل على قطاع غزة، بات دور الأسلحة الموجهة بالذكاء الاصطناعى أكثر وضوحا.
ولا يقتصر الذكاء الاصطناعى على سلاح بعينه. فبحسب تقرير لشبكة سكاى نيوز، يمكن لجميع أنواع الأسلحة، أكانت روبوتات أو طائرات مسيّرة أو طوربيدات على سبيل المثال، أن تتحول إلى أنظمة ذاتية التشغيل بفضل أجهزة استشعار متطورة تحكمها خوارزميات بالذكاء الاصطناعي تسمح للكمبيوتر "بالرؤية".
ولفت التقرير إلى أن ذاتية التشغيل لا تعني أن السلاح "يمكنه أن يستيقظ صباحًا ويقرر أن يشن حربًا"، حسبما يؤكد الأستاذ في علوم الحواسيب في جامعة كاليفورنيا بيركلي ستيوارت راسل، موضحا أنها هي أسلحة قادرة على تحديد مواقع الأهداف البشرية واختيارها ومهاجمتها أو الأهداف التي يوجد بداخلها بشر، من دون تدخل بشري".
أوكرانيا..المعركة الأولى
في أوكرانيا، كانت المشاركة الأولى لـ أسلحة الذكاء الاصطناعى فى ساحة المعركة. وبحسب تقرير لمعهد تحليل السياسى الأوروبية، فإن كييف استخدمت الدرونز ذاتية القيادة العسكرية والمدنية لتحديد وضرب الأهداف الروسية، وبفضل تكنولوجيا الـ AI، أصبحت عمليات الإقلاع والهبوط آلية، وكذلك الاستهداف. وفى أكتوبر شن أوكرانيا هجوما هائلا باستخدام 16 مركبة جوية بدون طواقم، وزوارق بحرية لتدمير سفن روسية فى القرن.
كما أشار التقرير البحثى الأوروبى إلى أن الذكاء الاصطناعى لعب دورا كبيرا فى توثيق الحرب، حيث يسمح برنامج التعرف على الوجه المدعوم بتقنية الAI للشرطة والصحفيين الأوكرانيين التعرف على الجنود الروس.
بدورها، أدركت روسيا دور تقنية الـ AI فى الحرب. وفى أغسطس الماضى، تم الإعلان عن ابتكار علماء روس منظومة توجيه ذاتى تعتمد على الذكاء الاصطناعى لتزود بها الطائرات المسيرة الانتحارية. هذه الطائرات تحلل وستمح بكشف الأهداف الثابتة والمتحركة، مما يسعد مشغل الطائرة المسيرة ليس فقط على اكتشاف الهدف، بل وإصابته ذاتيا بدقة تبلغ 90%.
وعلى بعد آلاف الأميال، فى قطاع غزة التي يتعرض لعدوان إسرائيلى وحشى لا مثيل له، أصبحت تل أبيب تعتمد على التكنولوجيا الجديدة فى توجيه ضرباتها المتتالية، والخطير فى الأمر أنها تحصل على مثل هذه الأسلحة من شركات أمريكية خاصة بكل سهولة، دون الحاجة للمرور بالقيود المعتادة للحصول على الأسلحة الأمريكية.
تهافت إسرائيلى على الأسلحة عالية التقنية
مجلة بولتيكو رصدت تهافت إسرائيل على الأسلحة عالية التقنية من شركات التكنولوجيا الأمريكية التي تعمل باستخدام الذكاء الاصطناعى.
وقالت المجلة إنه بعد ساعات من وقوع هجوم السابع من أكتوبر، تلقت شركة تكنولوجيا أمريكية متخصصة فى صناعة الدرونز رسائل بريد إلكترونى من الجيش الإسرائيلي، وكانت الطلبات للحصول على مسيرات الاستطلاع قصيرة المدى التي تنتجها الشركة، وهى مركبات طائرة صغيرة استخدمها الجيش الأمريكي فى تجاوز العقبات بشكل مستقل، وإجراء مسح ثلاثى الأبعاد للهياكل المعقدة مثل المباني.
وبعد ثلاث أسابيع، أرسلت شركة سكاى ديو أكثر من 100 من الدرونز إلى الجيش الإسرائيلي، مع توقعات بالمزيد فى الفترة القادمة.
ولم تكن سكاى ديو شركة التكنولوجيا الامريكية الوحيدة التي تلقت طلبات. فالحملة الشرسة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة خلقت طلبا جديدا على التكنولوجيا الدفاعية الحاسمة، والتي عادة ما يتم توريدها بشكل مباشر من المصنعين الأحدث والأصغر حجما، خارج المفاوضات التقليدية بين الدول من أجل الحصول على الإمدادات العسكرية.
وتستخدم إسرائيل بالفعل درونز ذاتية القيادة من إنتاج شركة Shield AI ، فى مناطق القتال الدخلية عن قرب. وأشارت تقارير إلى أن تل أبيب طلبت 200 من مسيرات Switchblade 600 kamikaze التي تنتجها شركة أمريكية أخرى، وفقا لموقع ديفينس سكوب.
بينما قال جون جروين، الرئيس التنفيذي لشركة فورتيم للتكنولوجيا، التي وردت للقوات الأوكرانية أجهزة رادار ومضادات مسيرات، أنها تجرى محادثات، لا تزال فى مراحلها الأولية، مع الإسرائيليين بشأن ما إذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعى الخاصة بها ستنجح فى البيئات الحضرية الكثيفة فى غزة.
البنتاجون على خط المنافسة
وفى ظل هذا الإقبال الهائل على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى فى المجال العسكرى، ومع تفوق صيني كبير فى هذا الأمر، تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيق مزيد من التقدم للتغلب على منافستها الأبرز. وكشفت وكالة أسوشيتدبرس إن البنتاجون يعتزم نشر عدة آلاف من المركبات ذاتية القيادة غير المكلفة نسبيا والتي تدعم الذكاء الاصطناعى بحلول 2026 لمواكبة الصينز وتسعى المبادرة الطموحة التي يطلق عليخه اسم Replicator ، إلى تحفيز التقدم فى التحول البطئ للغاية للابتكار العسكرى الأمريكي للاستفادة من المنصات الصغيرة والذكية والرخيصة والمتعددة، بحسب ما قالت نائبة وزير الدفاع الأمريكي كاثلين هيكس فى أغسطس الماضى.
وفى حين لا يزال تمويل المبادرة غير واضح وتفاصيلها غامضة، فمن المتوقع أن تساعد على تسريع القرارات الصعبة بشأن ما هو ناضج وقابل للثقة بإمكانية استخدامه من تكنولوجيا الذكاء الصناعى، بما فى ذلك الأنظمة المسلحة.
وبشكل عام، فإن الذكاء الاصطناعى الذى يستخدمه الجيش الأمريكى يمكن من قيادة طائرات استطلاع بدون طيار صغيرة الحجم فى مهام قوات العمليات الخاصة، كما أنه يتعقب لياقة الجنود ويتنبأ بموعد حاجة طائرات القوات الجوية إلى الصيانة، ناهيك عن أن يراقب المنافسين فى الفضاء.
محاولات التقنين تصطدم بمعارضة "قوى كبرى"
ومع اتساع دور الذكاء الاصطناعى فى الحروب، تتعالى الأصوات المطالبة بوضع قواعد منظمة لاستخدامه. وألقت صحيفة نيويورك تايمز الضوء على هذا الأمر فى تقرير لها عن "الروبوتات الفتاكة"، وقالت فيه إن القلق من المخاطر المتعلقة بالروبوتات الحربية جعل بعض الدول ترغب فى قيود قانونية جديدة، فى ظل معارضة من الولايات المتحدة ودول كبرى أخرى.
شبهت الصحيفة الأمر بالخيال العلمى، متمثلا فى أسراب من الروبوتات القاتلة التى تطارد الأهداف بمفردها، وقادرة على الطيران للقتل دون أى دور بشرى.
وقالت إن هذا الخيال بات قريبا للغاية من الواقع مع إحراز الولايات المتحدة والصين وحفنة من الدول الأخرى تقدما سريعا فى تطوير ونشر التكنولوجيا الجديدة ذات القدرة على إعادة تشكيل طبيعة الحرب بتحويل قرارات الحياة والموت إلى طائرات درونز مستقلة مزودة ببرامج الذكاء الاصطناعى.
وهذه الاحتمالية مقلقة للغاية للعديد من الحكومات الأخرى، حتى أنها تحاول تركيز الانتباه عليها بمقترحات فى الأمم المتحدة لفرض قواعد ملزمة قانونا حول استخدام ما تصفه الجيوش بالأسلحة المستقلة الفتاكة.
وقال ألكسندر كيميت، كبير مفاوضى النمسا فى هذه القضية إن هذه واحدة من أكثر نقاط التحول الأكثر أهمية للبشرية، فمسألة دور البشر فى استخدام القوة، قضية أمنية أساسية بلا شك، وقضية قانونية وأيضا قضية أخلاقية.
وقالت نيويورك تايمز إنه فى حين تقدم الأمم المتحدة منصة للحكومات للتعبير عن مخاوفهم، لكن من غير المرجح أن تكتسب هذه العملية قواعد جوهرية جديدة ملزمة قانونا. ويقول المدافعون عن الحد من التسلح إن الولايات المتحدة روسيا واستراليا وإسرائيل ودول أخرى جادلت جميعا بأنه ليس هناك حاجة إلى قانون دولى جديد فى الوقت الحالى، فى حين تريد الصين تضييق أى حد قانونى، بشكل لا يجعله ذا تأثير عملى كبير.