جهود كبيرة بذلتها الدولة المصرية خلال الأسابيع الماضية، وتحديدا منذ اندلاع العدوان على قطاع غزة، في ضوء التركيز على حماية القضية الفلسطينية، والتي سعى الاحتلال الإسرائيلي لتقويضها في أعقاب "طوفان الأقصى"، عبر تبرير الانتهاكات التي تصل في خطورتها إلى درجة "جرائم الحرب"، تحت ذريعة "الدفاع عن النفس"، بينما كان الهدف الرئيسي للعدوان هو تهجير الفلسطينيين من اراضيهم لتجريد الأرض من أهلها وحرمان الدولة المنشودة من مواطنيها.
ولعل الحديث عن الجهود المصرية، يتفرع إلى العديد من المسارات، من بينها ما هو إنساني، وأخر دبلوماسي، وما تخللهما من ملفات تراوحت بين المساعدات، وصفقة الأسرى، ونقل الجرحى والمصابين الى المستشفيات المصرية لتلقي العلاج، بالإضافة إلى عبور الاجانب تمهيدا لنقلهم إلى بلادهم، وهو ما أثمر في نهاية المطاف عن الوصول إلى هدنة قابلة للتمديد، يمكن البناء عليها للوصول إلى وقف إطلاق النار بشكل دائم ومستدام، والانتقال منها إلى التفاوض حول حلول الوضع النهائي في إطار حل الدولتين.
واعتمد المحور الدبلوماسي في إدارة الدولة المصرية لأزمة غزة، على أبعاد متوازية، أولها ذات عالمي، عبر الدعوة لقمة القاهرة للسلام، والتي تهدف في الاساس إلى تحقيق توافق دولي، حول ثوابت القضية الفلسطينية، وفي القلب منها حل الدولتين الذي يمثل أساس الشرعية الدولية، وتقويض دعوات التهجير المشبوهة التي أطلقها الاحتلال الإسرائيلي، بينما كان البعد الثاني إقليمي، يدور حول توحيد مواقف القوى الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط، في إطار تعزيز "الصمود الإقليمي"، وهو ما بدا في لقاءات الرئيس عبد الفتاح السيسي على هامش القمة العربية الاسلامية التي انعقدت في الرياض، والتي شملت العديد من الدول المحورية الهامة، وعلى رأسها تركيا وإيران.
في حين انطلق البعد الثالث نحو اقتحام دول المعسكر الغربي، والتي تمثل الداعم الرئيسي للاحتلال، وهو ما بدا واضحا في اللقاءات والاتصالات التي أجراها الرئيس السيسي مع العديد من قادة أوروبا الغربية، على غرار المستشار الالماني اولاف شولتس، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بالاضافة الى رئيسا وزراء إسبانيا وبلجيكا وحتى رئيسة المجر، وهو ما يعكس قدرة استثنائية على المناورة، ساهمت في اقتحام القارة العجوز، وتحقيق قدر كبير من التوافق معها فيما يتعلق بالمواقف من العدوان على غزة، ليتغير الخطاب الغربي، سواء في صورته الجمعية أو الفردية، وهو ما يبدو في استعادة أولوية القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية، وكذلك حديث عدد من المسؤولين عن ضرورة الاعتراف بدولة فلسطين.
وبالنظر إلى خريطة التوافقات التي حققتها مصر في أوروبا تحديدا، نجد أن ثمة تنوعا ملهما، بين شرق القارة وغربها، في انعكاس صريح للشراكات التي دشنتها، بدءً من ثلاثيتها مع اليونان وقبرص في جنوب القارة، مرورا بثنائيتها مع باريس والتي تقع في غرب القارة، وعلاقاتها القوية مع شرق أوروبا عبر تجمع فيشجراد، وهو ما يعكس ارتباطًا وثيقا بين التوافقات الكبيرة التي تحققت حول غزة من جانب الشراكات التي دشنتها الدولة المصرية على مدار سنوات طويلة من جانب آخر.
وهنا يمكننا القول بأن نجاح مصر في إدارة أزمة العدوان على غزة تتجلى في قدرتها على بناء علاقات قائمة على الثقة الدولية، في العديد من المناحي التي تمثل لب الشراكات التي دشنتها في السنوات الماضية، سواء اقتصاديا (مع اليونان وقبرص"، أو أمنيًا فيما يتعلق بمكافحة الارهاب (على غرار النموذج الفرنسي) أو مناخيا، وهو ام يبدو في إتفاقية الهيدروجين الأخضر التي أبرمتها مع بلجيكا خلال قمة المناخ التي عقدت في شرم الشيخ في العام الماضي، أو التقارب الكبير مع شرق أوروبا، مما صب في بوتقة المصالح المشتركة، وساهم في تعزيز الدور المصري إلى حد توجيه المواقف الدولية نحو مزيد من التوازن.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة