هى حدود شائكة، إلا أن اجتيازها لا يتطلب إعادة ضبط التوقيت، فعلى امتداد خطوط عرض وطول متقاربة، اجتمعت القاهرة وغزة وتل أبيب على ساعة متطابقة بحسابات الدقائق، إلا أن إيقاعها كان دوما مختلفا، وواقع دقاتها متباينا بأحكام التاريخ وفرائض الجغرافيا، فهناك من يتأمل ساعته دوما بفخر الواثقين المحصنين بصدق النوايا، ومن يراقبها متجرعا كأس ذل لا يفرغ بمرارة حقد لا يزول، وهناك أيضا من تأتيه دقات الساعة مصحوبة بنيران غدر اختار طوعا أن يقابله بثبات من كانت نيرانه بردا ومحنته سلاما، فأحال بقوانين الصبر أعداءه إلى قوائم الخاسرين ـ مهما جاروا ـ وإلى طابور المهزومين ـ مهما حصدوا من أرواح ـ فبرهن أن للأرض شعبا لم يمت، ولن يرحل، ولا يستسلم أمام الضغوط لمؤامرات التهجير.
كأس ذل فى ساعة ثقيلة من العار
فى تل أبيب، وتحت سماء القبة الحديدية، كانت ذكريات خط بارليف الذى انهار تطرق أبواب رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، فعقارب الساعة تنبئ بمرور 50 عاما على حرب الغفران، التى ذاق مرارتها وتجرع معها كؤوسا لا حصر لها من الذل، راقب نتنياهو عقارب ساعته، وبثقل العار طوى الأيام دون أن يدرى أنه على موعد مع ذكرى جديدة لعار حديث تجدد توقيته فى السابع من أكتوبر 2023، حينما حاصرته تقارير الانهيار المدوى لمستوطناته غير الشرعية فى غلاف غزة، وحين صدمته الأنباء المتتالية عن سقوط العشرات من الأسرى فى قبضة الفصائل الفلسطينية.
راقب نتنياهو عقارب ساعة الهزيمة، وتجرع كأسا جديدا من الذل، ذاق قديما مرارة الأسر، وخسر شقيقه الأكبر بعد اختطافه ضمن آخرين من قبل فصائل فلسطين فى السبعينيات خلال عملية نوعية، دارت فصولها على التراب الأوغندى، واليوم يجد نفسه فى مقعد مختلف، وهو يشاهد آلاف الإسرائيليين من ذوى الأسرى المختطفين يتظاهرون أمام السفارة المصرية طلبا للعون، وطمعا فى الوساطة، إيمانا منهم بأنه لا يملك مفاتيح الحل، ولا عزيمة الحسم، ولا إرادة الانتصار.
على مكتبه، توالت الزيارات وتوافد المسؤولون أملا فى محو عار الهزيمة، وحاول الغرب بإعلامه ودوائره الرسمية وشبه الرسمية صناعة رأى عام داعم لدولة الاحتلال، ولكن دون جدوى.
قال فى ضيافته الرئيس الأمريكى جو بايدن: إن لم تكن إسرائيل موجودة لأوجدناها، وعلى طاولته أودع زعماء أوروبا القرابين بإقرار أعمى بـ«حق إسرائيل» فى قتل المدنيين تحت ذرائع الدفاع عن النفس، إلا أن دقات الساعة كانت أعلى كثيرا من موجات التعتيم، وقبح الصورة ودمويتها أكبر كثيرا من مساحيق التجميل.
طوى نتنياهو الأيام تلو الأيام فى الشهر الأول من حربه المفتوحة على غزة، ارتفعت أمام عينيه فاتورة البقاء، وحسابات الرحيل، وحاصرته شروخ الانقسامات، وتسللت بين ثناياها بذور الشكوك، ودعوات عاجلة لحساب لن تفلح معه مناورات السياسة ولا ألاعيب الصناديق وتحالفات ما وراء الستار.
اجتاز نتنياهو شهره الأول من الحرب على غزة، وهو يدرك أن الرصاصة الأخيرة سيتبعها محاكمة ربما تنتهى معها رحلته الطويلة فى الحكم، ويعلم أن غبار المعارك لن يفارق سماء تل أبيب وقبتها الحديدية المخترقة، دون أن يكون على موعد مع تحقيق لا يرحم، وسجل حافل من الاتهامات السياسية والجنائية على حد سواء، يدفع نتنياهو آلة القتل الإسرائيلية نحو المزيد من الدماء التى يجدد بها عمر الحرب الدائرة، خوفا من ساعة الحساب، إلا أن إدراكه أن التوسع فى أى تحرك برى يعنى تحت أكثر التقديرات تفاؤلا، المزيد من الخسائر والأسرى والمزيد ممن يوبخون ويلعنون ويتقاسمون معه قسرا مرارة هزيمة لن تمحوها فاتورة ضخمة من شهداء القطاع، ولن تبررها أى ادعاءات فى الداخل الإسرائيلى.
ساعة ثبات لـ«انتفاضة الأحلام»
فى غزة ومحيطها، كان الاستيطان سرطانا ينهش أحلام السلام الذى روج رعاته بأنه سيكون ممكنا فى يوم من الأيام، روض اليمين المتطرف فى إسرائيل الضفة الغربية بالحديد والنار، وحاصر قطاع غزة بنشاط استيطانى كان محل إدانة من كل اللغات، فكان لساعة الثبات وقع حاسم ومدو، لتعلن دقاتها عن موعد انتفاضة الأحلام العابرة للحدود.
فى انتفاضة الأحلام، باغتت الفصائل الفلسطينية مستوطنين بدرجة مقاتلين بشراسة، وكبدت الاحتلال الإسرائيلى ما يزيد على 1400 قتيل، ولا تزال تواجه ببسالة محاولات الاجتياح البرى، وقبل ذلك كله، أذاقت تل أبيب مرارة الذل بأسر أكثر من 200 إسرائيلى، وفجرت غضبا مكتوما فى الداخل الإسرائيلى من ممارسات وسياسات بنيامين نتنياهو، الذى أثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه ليس أهلا لأن يكون رجل حرب، يمثل تيار الصقور، ولم يكون يوما مؤهلا ليجلس على طاولة مفاوضات تقى الشرق الأوسط شرور التصعيد والاحتقان فى المشهد الفلسطينى ـ الإسرائيلى، وتبعاته.
باغتت الفصائل نتنياهو وراهنت على الانحدار الطبيعى لكرة النار، التى طالت قواعد أمريكا على امتداد خرائط الشرق الأوسط، فأدركت معها واشنطن أن الانحياز الأعمى لتل أبيب لن يجدى، وأن الإنكار المستمر لما يراق من دماء أهالى غزة، له ثمن ستدفعه بشكل مباشر بخسائر مادية وبشرية.
وفى غزة، بميادينها ومستشفياتها وأسواقها ومساجدها، التى تصدت ببسالة لغارات الغدر وهجمات الخسة، كان ذلك الصمود الفطرى الذى تتوارثه الأجيال مصدر إلهام عابر للحدود، ورسالة فاقت قوتها أكاذيب الغرب وإعلامه الغارق فى ازدواجية المعايير، ما كان محركا لتظاهرات دعم وتأييد لفلسطين وشعبها، شارك بها كل أجناس الأرض، من بروكسل إلى باريس، وصولا إلى لندن وحتى الولايات المتحدة نفسها، وداخل الكونجرس الذى سارع فى الأيام الأولى من العدوان لدعم الاحتلال، قبل أن يعكس صمود المدنيين العزل الآية ويقلب الموازين.
صنعت غزة بصمودها ملحمة مكتملة الأركان، والأهم أنها حركت الكثير من المياه الراكدة فى القضية الفلسطينية، وقدمت ـ دون قصد ـ درسا حيا على الشاشات لجيل عربى صغير من المحيط إلى الخليج، فتح أعينه على واقع ربما كان متواريا فى الصفوف الخلفية، وربما كان فى طريقه للاندثار أمام موجات التطبيع المشروط وغير المشروط، صنعت غزة صمودا فريدا، ومنحت بدمائها وبسالتها القضية الفلسطينية قبلة الحياة، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة على فراش «السلام الإبراهيمى» الذى باركه الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب.
بايدن.. ساعة إفاقة لرجل يصافح العدم
فى واشنطن، لم تكن صدمة الـ7 من أكتوبر أقل حدة عما كانت عليه فى تل أبيب، فخلف جدران البيت الأبيض يسكن رئيس حائز لرقم قياسى فى التلعثم وزلات اللسان، يقف يوميا أمام المرآة ويتحدى نفسه، يخرج فى المؤتمرات ليدلى بعبارات مغلوطة لا تمت للواقع بصلة، وربما ينهى لقاءاته بإشارات وداع لأشخاص لا وجود لهم أو بمصافحة العدم.
آفاق العجوز جو بايدن من خموله على وقع الصدمة أربكته الحسابات وخانته التقديرات، وأيقن سريعا أن ما قدمته واشنطن من دعم لا متناهى للحليفة إسرائيل، ربما ينتهى به المطاف فى حسابات سرية تديرها سارة نتنياهو، زوجة رئيس الوزراء، وأدرك بما لا يدع مجالا للشك أن دولارات أمريكا لم تمر على القبة الحديدية أو منظومات الردع، التى كثيرا ما سوقتها حكومة الاحتلال بـ«التحصينات التى لا مجال لاختراقها».
قدم بايدن الدعم تلو الدعم فى الأيام الأولى من طوفان الأقصى، أصدر أوامره بتحرك حاملات الطائرات التى يليق اجتيازها للبحار بحرب عالمية جديدة، دون جدوى، كشفت حساباته فراغة منطقه، وخذله تتابع الأحداث، كما كان الحال فى انسحابه الفوضوى من أفغانستان، ورهاناته الخاسرة والممتدة فى أوكرانيا، زار تل أبيب، ومنح الاحتلال مبررات أخلاقية ولا أخلاقية لقتل المدنيين تحت ذريعة الدفاع عن النفس، قبل أن يدرك سريعا أن لإسرائيل فاتورة باتت أثقل من أن يحتملها البيت الأبيض، وفريق حملته الانتخابية الذى يجاهد فى ميادين عدة لإقناع الناخب الأمريكى بأن فى جسد «الرئيس المرشح» قلبا ينبض، وعقلا يمتلك ما يلزم من لياقة لإدارة البلاد فى ولاية رئاسية جديدة.
هنا القاهرة.. تاريخ يضبط ساعة الأزمات
في القاهرة ، ووسط خريطة تعج باضطرابات لا تنتهي. كانت الدولة المصرية أكثر اتزانًا والتزاماً بالثوابت التاريخية للقضية الفلسطينية. لم تحد أمام جثامة التحديات عن الطريق الصحيح. ولم تثنيها عن دورها التاريخي شعارات من تاجروا زواراً بأحلام الفلسطينيين، أو دفعوا بطلاناً بضرورة الانكفاء على الذات وغض الطرف عن معاناة العزل تحت ذرائع تحديات الداخل، أو الميل إلى رواية أن من بدأ التصعيد ملزماً بتحمل تداعياته.
قدمت الدولة المصرية على مدار شهر دروساً في الدبلوماسية، وضربت مثالاً في التناغم بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في دعم القضية الفلسطينية بالأفعال قبل الأقوال. لم تنزلق إلى دوامة الانفعال غير المنضبط والمناورات غير المدروسة. ولم ترتكن إلى الرهانات المنفردة علي الغرب والبيت الأبيض دون تحركات فاعلة وقوية على أرض الواقع، فخاضت معركة متعددة الجبهات كللت فيها بانتصار تلو الآخر، بداية من العبور الآمن للمساعدات الإنسانية إلى داخل القطاع، وصولاً إلى اجتياز الحالات الإنسانية من أهالي القطاع معبر رفح ليلقوا ما يلزم من علاج ودعم.
بحكمة الواثقين، كان تحرك الدولة المصرية هادئاً بما يلزم ، ومؤثراً بما يكفي من خلال قمة القاهرة للسلام وما تلاها، بهدف التخفيف أولاً من وطء الأزمة الإنسانية في القطاع، وإرغام المجتمع الدولي على تبني خطاباً أكثر اتزانا، وإقدام دول غربية على الدعوة لهدنة إنسانية، مع إدانة استهداف المدنيين. وثانياً من خلال إعادة العناوين الرئيسية للقضية الفلسطينية إلى الوجهة وهي استئناف مفاوضات السلام والتحرك قدماً ـ وبرعاية دولية ـ صوب إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من يونيو 1967، وهو السعي الذي بدأ يتبلور بوضوح نتاج جهد مصري ـ أردني مع دول أوروبية بمقدمتها فرنسا وألمانيا، ولم تغب عنه الولايات المتحدة عبر دوائر رسمية وشبه رسمية.
وفي معركة الدفاع عن غزة، لم تخل دروب القاهرة من ألغام، كان أخطرها ذلك السيناريو المشبوه الذي حاولت إسرائيل تمريره قسراً بنيران القصف والغارات، وسراً عبر وكلاء غربيين، بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وهو ما فضحته المنشورات التي تهبط على رؤوس العزل في غزة، والتسريبات التي نشرتها وسائل إعلام غربية، وحاولت تمريره كما يدس السم في العسل، كصفقة تطبخ على نار هادئة، وهي المساع التي قابلتها القاهرة بنفي واضح، وبتحركات على أصعدة عدة، انتهت بإدانة قاطعة في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، واعتراف أمريكي بالسيادة المصرية، وقطع الطريق أمام أي محاولة لتهجير سكان قطاع غزة إلى أي من دول الجوار الفلسطيني.
على مدار شهر، روضت القاهرة الطامعين، وردعت الواهمين. وضعت المجتمع الدولي أمام مسئولياته. ومنحت ـ رغم تحدياتها ـ شريان حياة لأهالي قطاع غزة، وحمت قضية فلسطين من مخطط التفكيك ولا تزال. بآمال غزة وارتباك واشنطن وتفكك بروكسل، راقبت القاهرة دقات الساعة في عواصم عدة، فمارست دورها بهدوء دون متاجرة، وثبات دون تباه. وثقة لا يشوبها غرور، فأعادت بحكم التاريخ رسم خطوط العرض والطول. وفرضت بحكم الجغرافيا قوانينها العادلة.
استثمرت القاهرة نزاهة تاريخها وأدارت معركتها الدبلوماسية.. فرضت الجغرافيا أحكامها علي عقارب الساعة بتوقيتات متشابهات وغير متشابهات .. تشابكت الصور وسالت الدماء من أركانها وتعالت أصوات التشويش مع اختلاف الإيقاع، فاضطر الجميع ممن يتشاركون خطوط العرض والطول، ومن يقفون بعيداً وراء البحر.. ومن يتشاركون في اللغة والدين والمصير، وأولئك الذين رأوا في أوكرانيا أبرياء يقتلون وفي غزة من لا يستحقون الرثاء.. تعالت الهتافات والصياح، وتلاشى صوت العقل وغاب وسط غبار المعارك وسحب الدخان الكثيف، فأيقن الجميع حينها أن مفاتيح الحل لن تكون باجتياح بري من بنيامين نتنياهو، ولا بخطاب باهت من البيت الأبيض، أو بمحاولات مرتبكة في بروكسل بحثاً عن موقف أوروبي مشترك في تلك الأزمة.. تعالت الأصوات، وسكن الارتباك أركان المشهد.. فأيقن الجميع أنه مطالب بقوة التاريخ وأحكام الجغرافيا بأن يضبط ساعته على "توقيت القاهرة".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة