انتهى لقاء جمال عبدالناصر بوزير الخزانة الأمريكية، أندرسون، والمبعوث السرى من الرئيس الأمريكى، إيزنهاور، لعرض خطته بالاستعداد لتمويل مشروع السد العالى فى مقابل توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، وفى نهاية اللقاء أخرج «أندرسون » من جيبه دولارا واحدا عليه توقيعه بوصفه وزيرا للخزانة، وقال لـ «عبدالناصر »: هل ترى توقيعى على هذا الدولار، سأعطيه لك وسأوقع عليه توقيعا إضافيا بخطى أمامك رمزا وتذكارا »، وفقا لمحمد حسنين هيكل فى كتابه «ملفات السويس »، «رجع، ذات يوم، 9 ديسمبر 2023 ».
يذكر «هيكل » أن «أندرسون » قال لـ «جمال عبدالناصر » فى نهاية لقائهما أنه سيتوجه إلى إسرائيل لمقابلة رئيس حكومتها «بن جوريون»، ويأمل أن يعود إلى القاهرة فى ظرف أيام، وفكر «عبدالناصر » لوهلة، ثم رد: «لا أريد أن أجرى اتصالات مع بن جوريون ولا حتى بالوساطة، فهذه كما قلت لك قضية لا تهمنى وحدى، ولكنها تهم آخرين فى العالم العربى معى »، ثم أضاف «عبدالناصر »: «بالطبع لا أستطيع أن أمنعك من الذهاب إلى إسرائيل، ولكنى أرجوك ألا تقصد من القاهرة إلى تل أبيب رأسا، لأن قوانيننا لا تسمح لك بذلك، ومن الأفضل أن تتوقف فى قبرص أو فى أثينا، ومن هناك تغير اتجاهك وتذهب حيث تشاء » .
يؤكد «هيكل » أن «أندرسون » غادر القاهرة فى اليوم التالى «10 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1955»، وعاد بعد خمسة أيام يحمل رأى «بن جوريون » فى مشروع إيزنهاور لصنع السلام فى الأراضى المقدسة، والتقى «عبدالناصر » مرة ثانية، وقال له: «إن «بن جوريون » يرى أن الوساطات عن بعد مضيعة للوقت، وأنه يقترح أن تلتقيا مباشرة فى إسرائيل أو فى مصر أو فى بلد محايد، وهو واثق أنه إذا توافرت الرغبة فى السلام، فإن التسوية يمكن أن تتحقق فى يومين أو ثلاثة »، ورد «عبدالناصر »: «ذلك مستحيل لأن الشعب المصرى لن يسمح به، ولن يسمح به الجيش المصرى، ولن تسمح به شعوب الأمة العربية ».
علق «أندرسون » على ذلك بأن القادة يتقدمون شعوبهم ولا يتبعونها، رد «عبدالناصر » بأنه يوافق، ولكن شرط أن يكون تقدم الزعماء فى الخط العام لأمانى شعوبهم وليس ضدهم، وأنه إذا قرر وحده ومن الهواء أن يقابل «بن جوريون »، فلن يسمح الشعب المصرى له بالعودة لمصر، وإن عاد فسوف يقتله.
يذكر «هيكل » أن «أندرسون » أدرك أن مهمته ليست بالسهولة التى تصورها، فقرر السفر إلى واشنطن للتشاور وقضاء إجازة الكريسماس مع أسرته، وسافر ثم عاد فى أواخر يناير 1956 باقتراح محدد مؤداه «استعداد أمريكا بأن تتقدم إلى الطرفين المصرى والإسرائيلى بمشروعات حلول تفصيلية يوقعها الطرفان دون لقاء بينهما، ثم تتاح الفرصة للقاء مباشر بعد التوقيع ».
فى اللقاء الجديد لـ «أندرسون » مع «عبدالناصر » قدم ملفا فيه ثلاثة وثائق «ينشر هيكل صورها ونصوصها كاملة فى الملحق الوثائقى لكتاب ملفات السويس »، الأولى: «رسالة مقترحة من الرئيس المصرى جمال عبدالناصر إلى الرئيس إيزنهاور، تتضمن رغبة مصر فى توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل »، والوثيقة الثانية، «اقتراحا ببيان مصرى بالمبادئ العامة التى توفر الأساس لحل النزاع العربى الإسرائيلى، وتضم خمسة بنود عامة، الأول، عن التسوية الإقليمية على أساس إقامة اتصال جغرافى بين مصر والأردن، وإقامة حدود دائمة ومعترف بها بين العرب وإسرائيل، والبند الثانى عن مشكلة اللاجئين بما فى ذلك إضفاء الجنسية الإسرائيلية على العرب الذين يعودون إذا لم يتيسر تعويضهم، والبند الثالث عن مشكلة القدس، ويحيلها إلى محادثات مقبولة من المجتمع العالمى، والبند الرابع عن إنهاء حالة الحرب رسميا وإنهاء المقاطعة لإسرائيل وللمتعاملين معها، والبند الخامس عن أهمية التنمية المشتركة والموحدة بين العرب وإسرائيل، ويطرح وادى الأردن ومياه نهر الأردن كنموذج لاحتمالاته ».
كانت الوثيقة الثالثة، وفقا لهيكل «رسالة مقترحة أيضا من جمال عبدالناصر إلى البنك الدولى للإنشاء والتعمير عن مشروع السد العالى، وأخطر ما فيها هو القبول بإشراف البنك الدولى إشرافا فعليا على موارد مصر المالية، وأوجه صرفها فى سنوات تنفيذ المشروع ».
يؤكد «هيكل » أن «عبدالناصر » كان فى حالة دهشة يشوبها غضب، وهو يلقى نظرة سريعة على هذه المقترحات التى كان مطلوبا منه أن يوقع وثائقها، واكتفى بأن قال لـ«أندرسون » إنه سوف يدرس النصوص دراسة كاملة، وسيبلغه رده، ويضيف: «لم يلتق عبدالناصر بعدها بأندرسون، وإنما ظلت الاتصالات غير المباشرة بعد ذلك موكلة إلى على صبرى، الذى كان مكلفا بقناة الاتصال غير الرسمى مع أمريكا، واقترح «أندرسون» فى لقاء ثانى مع على صبرى أن يقوم عبدالناصر بإدخال أى تغييرات يراها على النصوص المقترحة، وفى الاتصالات بين على صبرى وأندرسون نوقشت عدة صيغ، لكن رفضها عبدالناصر، واعتبر أن مقايضة السد العالى بالصلح مع إسرائيل أمرا يمس السيادة، ولا يجوز مناقشته من الأساس، وغادر «أندرسون» القاهرة غاضبا ».