ورد سؤال لدار الإفتاء المصرية عبر موقعها الرسمي، جاء مضمونه: "ما عدة المطلقة التي استؤصل رحمها؟ فهناك امرأة طُلقت بعد الدخول، وتريد أن تعرف كيف تقوم بحساب مدة عدَّتها، مع العلم أنها قد قامت بعملية استئصال كُلِّي للرحم؛ فكيف تعتد هذه المرأة؟".
وجاء رد دار الإفتاء كالتالي:
مفهوم العدة وبيان الحكمة من مشروعيتها
العدَّةُ: هي المدة التي تتربص فيها المرأة عند حصول الفُرقة من النكاح، سواء أكانت هذه الفُرقة بطلاقٍ، أم بفسخٍ، أم بوفاةِ زوجٍ؛ كما في "المحكم والمحيط الأعظم" للعلامة ابن سِيدَهْ (1/ 81، ط. دار الكتب العلمية)، و"الإقناع" للعلامة الخطيب الشربيني (2/ 465، ط. دار الفكر).
وشُرِعَت العدة لمعانٍ وحِكَمٍ؛ منها: التعبد لله سبحانه وتعالى بالالتزام بأحكامها، والتفجُّع على الفُرقة، ومنها: استبراء الرحم، ومنها: إتاحة الفرصة في مدة الطلاق الرجعي للمراجعة بين الزوجين، والمعتدة على كلِّ حالٍ لا يحل لها الزواج من غير زوجها أو مُطلقها حتى تنقضي عدتها منه. ينظر: "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 479، ط. دار الكتب العلمية)، و"الفواكه الدواني" للعلامة النَّفَرَاوِي (2/ 59، ط. دار الفكر): و"حاشية البُجَيْرِمِي على شرح الخطيب" (4/ 42، ط. دار الفكر).
عدة المرأة التي استؤصل رحمها وإيراد بعض المناقشات
إذا عُلِم ذلك: فإنَّ حكم المرأة التي استؤصل رحمها جزئيًّا أو كليًّا من حيث العدة وحسابها يدخل في حكم الآيسة دخولًا أوَّليًّا، بجامع انقطاع الحيض في كلٍّ، من جهة عدم قدرة المبيضين على إنتاج البويضات وما يلزم عنه من نزول الحيض؛ حيث تقرر في عِلم التشريح أن الرحم يَضْمُر بعد سن الإياس ولا يستطيع المبيضان إنتاج البويضات في هذه السِّن، كما جاء في قاموس (سنل) "علم التشريح السريري -البطن والحوض والعجان" (ص: 269).
وقد أجمع العلماء على أنَّ عدة الآيسة ثلاثة أشهر؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ [الطلاق: 4].
قال الإمام أبو الوليد ابن رشد المالكي في "بداية المجتهد" (3/ 108، ط. دار الحديث): [واليائسات منهن عدتهن ثلاثة أشهر، ولا خلاف في هذا؛ لأنه منصوص عليه] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامَة الحنبلي في "المغني" (8/ 105، ط. مكتبة القاهرة): [(وإن كانت من الآيسات، أو ممَّن لم يحضن، فعدتها ثلاثة أشهر) أجمع أهل العلم على هذا؛ لأن الله تعالى ذكره في كتابه بقوله سبحانه: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾] اهـ.
فإن قيلَ: لِمَ قلتم بالاعتداد بثلاثة أشهر كالآيسة، ولا تعتد كـ"المرتابة" أو "ممتدة الطهر"؟ حيث إنها قد انقطع حيضها بعد أن رأت الدم، وقبل أن تبلغ سن اليأس.
قُلنَـا: الانقطاع في صورة "المرتابة أو ممتدة الطهر" عَرَضي لا يُعلم متى سيرجع فما مِن لحظة إلا ويتوقع هجوم الحيض عليها، بخلاف المستأصل رحمها فالانقطاع في حالتها دائم ومستمر كما قرره الأطباء.
قال الإمام تاج الدين السُّبْكِي في "الإبهاج" (3/ 183، ط. دار الكتب العلمية) في الكلام عن متباعدة الطهر: [أوجب الله تعالى التربص بالإقراء إلا على اللائي يئسن، وليس هذه منهنَّ وما مِن لحظة إلا ويتوقع هجوم الحيض؛ فهذا عذرٌ نادرٌ لا يسلطنا على تخصيص النص] اهـ.
وما قررناه من الإلحاق بالآيسة متوافق مع ما ذهب إليه جماعة من محققي المذاهب كالإمام الزَّرْكَشِي من الشافعية، والشيخ ابن تَيْمِيَّة من الحنابلة؛ حيث أَلْحَقوا بالآيسةِ المرتابةَ التي انقطع حيضها بعد أن رأت الدم، وقبل أن تبلغ سن اليأس، وإلحاق المستأصل رحمها بالآيسة أولى وآكد.
قال العلامة الرملي في "نهاية المحتاج" (7/ 132، ط. دار الفكر، مع "حاشية الشَّبْرَامَلِّسِي"): [(ومَن) (انقطع دمها) (لعلة) تعرف (كرضاع ومرض) وإن لم يُرج بُرؤه كما شمله إطلاقهم؛ خلافًا لما اعتمده الزَّرْكَشِي] اهـ.
قال العلامة الشَّبْرَامَلِّسِي محشِّيًا عليه: [(قوله: خلافًا لما اعتمده الزركشي) لعله يقول إن عدتها ثلاثة أشهر إلحاقًا لها بالآيسة] اهـ.
كما اختار الشيخ ابن تيمية الحنبلي إلحاقها بالآيسة إذا علمتْ عدم رجوعه، كما ذكر عنه العلامة ابن مُفْلِح في "الفروع" (9/ 248، ط. مؤسسة الرسالة).
فإن قيلَ: إن دم الحيض غير مرتبط بالتبويض؛ حيث ثبت طبيًّا أنه يحدث بـشكل طبيعـي حتى في الدورات غير التبويضية.
قُلنَـا: إن محلَّ الحيض وهو الرحم قد زال بالاستئصال، وبذلك فقد ذهب المحل الذي يلزم منه قطع احتمال الحيض وعدم تصوره ثانيةً؛ وقد نصَّ الفقهاءُ والأصوليون على أنَّ الحكم الشرعي لا بُدَّ له من محلٍّ يتعلَّق به، وعبَّروا عن ذلك بتعبيراتٍ مختلفة؛ كـ"انتفاء المحل" كما في "فتح القدير" للعلامة ابن الهُمَام الحنفي (3/ 208، ط. دار الفكر)، و"زوال المحل" كما في "رد المحتار" للعلامة ابن عابدين الحنفي (3/ 354، ط. دار الفكر)، و"ذهاب المحل" كما في "بداية المجتهد" للإمام ابن رشد المالكي (4/ 14)، و"سقوط المحل" كما في "مواهب الجليل" للعلامة الحطَّاب المالكي (1/ 192، ط. دار الفكر)، و"حاشية ابن قاسم العَبَّادي الشافعي على تحفة المحتاج" (2/ 103، ط. دار إحياء التراث العربي)، و"تلف المحل"؛ كما في "الشرح الكبير" للعلامة أبي الفرج شمس الدين ابن قدامة الحنبلي (12/ 420، ط. دار الكتاب العربي).
وبزوال محل الحيض بسبب استئصال الرحم قامت الأشهر مقام الحيض؛ لكونه الذي يستبرأ به الأرحام دون الطهر، فدخلت بذلك المعنى من استؤصِلَ رحمُها تحت حكم الآيسة.
قال العلامة علاء الدين البخاري الحنفي في "كشف الأسرار" (1/ 81، ط. دار الكتاب الإسلامي): [وقوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ﴾ الآية؛ فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار، وأن الغرض الأصيل في العدة استبراء الرحم، والحيض هو الذي يستبرأ به الأرحام دون الطهر] اهـ.
وقال العلامة ابن الهُمام الحنفي في "فتح القدير" (4/ 311، ط. دار الفكر): [الحيض هو المعرِّف بالذات لبراءة الرحم، بخلاف الطهر؛ لأنه وإن دل فبواسطة الحيض الذي يستلزمه] اهـ.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "الإشراف" (2/ 558، ط. دار ابن حزم): [الحيض أمارةٌ دالةٌ على براءة الرحم] اهـ.
وقال العلامة عِلِيش المالكي في "منح الجليل" (4/ 307، ط. دار الفكر): [الحيض هو الأصل في الدلالة على براءة الرحم] اهـ.
بالإضافة إلى أنه لا يلزم من ذلك كون الدم النازل في حال استئصال الرحم حيضًا وإن كان في الظاهر تنفصل الدماء منه؛ لأن تلك الدماء قد تكون استحاضة أو نزيفًا أو إفرازات مهبلية، وقد تقرر شرعًا أنَّ دم الحيض هو دم جِبلة وطبيعة، ويخرج من أقصى رحم المرأة مع الصحة والعادة كما قرر الفقهاء؛ حيث قال الإمام أبو المظفر السمعاني في "قواطع الأدلة في الأصول" (2/ 154، ط. دار الكتب العلمية) في الفرق بين دم الحيض ودم الاستحاضة: [دم الحيض دم يرخيه الرحم ويخرج من جوفه في زمان مخصوص تعتاد النساء ذلك بأصل بِنيَتهن وخلقتهن، وأما دم الاستحاضة فدم ينفصل من العِرق لا من الرحم ولا رخاء لذلك، وإن كان في الظاهر ينفصل من المحل الذى ينفصل منه دم الاستحاضة] اهـ.
كما أنه قد تقرر في علم التشريح أن دم الحيض يطلق على الدم الدوري الذي يمتزج بالمخاط والخلايا البالية المتساقطة للغشاء المخاطي المبطن للرحم. ينظر: "أمراض النساء والولادة" للدكتور/ دوجالد بیرد، و"الموجز الإرشادي عن أمراض النسـاء" للدكتور/ جـوزفین بـارنز، وجیـوفري شـامیرلین، ترجمـة د/ حــافظ والــي: (ص: 119)، و"ســن الیــأس"، إعــداد لجنــة مــن الأطبــاء الاختصاصــیین، (ص: 17-18، ط. الــدار الدولیــة- القاهرة).
فإن قيلَ: ما فائدة تقرير العدة بشأن من استؤصل رحمها، ما دام أنَّ محل نزول دم الحيض زالَ بصورة نهائية؟
قُلنـاَ: تقرر شرعًا وجوب العِدة بعد وجود سببها مطلقًا، وذلك توفية لجانب التعبد، وهو مقصدٌ مراعى في أحكام العدة.
قال الإمام القرافي في "الفروق" (3/ 204، ط. عالم الكتب): [العدة يغلب عليها شائبة التعبد من حيث الجملة -وإن كانت معقولة المعنى من حيث الجملة-؛ لأنها شرعت لبراءة الرحم وعدم اختلاط الأنساب فمن هذا الوجه هي معقولة المعنى، ومن جهة أن العدة تجب في الوفاة على بنت المهد وتجب في الطلاق والوفاة على الكبيرة المعلوم براءتها بسبب الغيبة وغيرها هذه شائبة التعبد، فلما كان في العدة شائبة التعبد وجب فعلها بعد سببها مطلقا في جميع الصور عُلِمتِ البراءة أم لا؛ توفية لشائبة التعبد] اهـ.
والاعتبار هنا بحال المعتدة لا بعادة النساء، والدليل عليه: أنها لو بلغت سنًّا لا تحيض فيها النساء وهي تحيض كانت عدتها بالأقراء اعتبارًا بحالها، فكذلك إذا لم تحض في سن تحيض فيه النساء وجب أن تعتد بالأشهر اعتبارًا بحالها؛ كما قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في "المُهذب" (3/ 121، ط. دار الكتب العلمية).
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فهذه المرأة التي طُلقت بعد الدخول، وقد استؤصل رحمها جزئيًّا أو كليًّا، تكون عدتها ثلاثة أشهر؛ دخولًا في عدة المطلقة الآيسة؛ لأن علتهما واحدة، وهي انقطاع دم الحيض مع عدم احتمال عودِهِ مرةً أُخرى.