غنت سيدة الغناء العربى أم كلثوم «الأطلال» لإبراهيم ناجى، ورياض السنباطى يوم 7 إبريل 1966، وفى 6 ديسمبر 1968 قدمت قصيدة «هذه ليلتى» للبنانى جورج جرداق، ومحمد عبدالوهاب، ولجمال اللحنين تصدى الناقد والمؤلف الموسيقى سليمان جميل لمقارنتهما فى مقال «أم كلثوم بين هذه ليلتى والأطلال» بالأهرام، 27 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1968. سليمان جميل موسيقى مصرى كبير، ولد بالإسكندرية عام 1924، ودرس بمعهد الموسيقى العربية عام 1940، وله مؤلفات موسيقية وتسجيلية كثيرة، وحصل على جوائز محلية وعالمية، وعمل ناقدا موسيقيا بالأهرام من 1964 إلى 1986 وقت أن كانت الصحافة المصرية تهتم بذلك، وتوفى عام 1994.
يستهل «جميل» مقاله بتفسير خصائص المدرسة الغنائية، التى أثرت فى الشخصية الموسيقية للسنباطى وعبدالوهاب وأم كلثوم، ويلخصها فى نقطتين، أولا.. كانت الموسيقى محتاجة للغناء، وهكذا كانت الحنجرة هى الأساس فى التعبير الموسيقى، أما الآلة الموسيقية فكانت تلعب دور التابع لدور الحنجرة فى الغناء، وكان يمتاز المطرب عن غيره من المطربين بمدى قدرته على أداء الحركة اللحنية الصعبة.
ثانيا.. موهبة ارتجال الألحان، وكان المطرب يمتاز بمدى قدرته على الابتكار الفورى للألحان أثناء الغناء، وتبلورت خصائص هذه المدرسة الغنائية فى عملاق الأداء وارتجال الألحان عبده الحامولى «1845-1901»، وفى عصره بدأت تتطور قدرات الملحن المصرى نحو تحديد كيان لحنى مستقل للدور الغنائى على يد الملحن محمد عثمان «1855-1900».
يفرق «جميل» بين ارتجال الألحان والتلحين، قائلا: «ارتجال الألحان هو أسلوب ابتكار النغم من وحى لحظة الغناء، وهو مرحلة أولية فى التلحين، ويمتاز المغنى الموهوب بمدى قدرته على ارتجال الألحان، وقمته تظهر فى الموال، وعادة تختلف الألحان المرتجلة عند المغنى الواحد أو الموال الواحد من حفلة موسيقية إلى أخرى، والتلحين هو أسلوب ابتكار الألحان بقصد تكوين شكل موسيقى نهائى ومحدد لحركة الألحان وعلاقاتها ببعضها».
فى ضوء ما سبق، يحدد «جميل» عناصر بناء الشخصية الموسيقية للسنباطى وعبدالوهاب، قائلا: «بدأ عبدالوهاب حياته الموسيقية مطربا، وأداؤه الغنائى هو حصيلة التدريب على الحركات اللحنية الصعبة، وكان بعد سيد درويش أحد الرواد الذين بسطوا حركات الأداء اللحنى، وجعلوها فى خدمة التعبير عن عواطف ومشاعر الإنسان، وعبدالوهاب المغنى يتمتع بموهبة ارتجال الألحان، وتطورت بالخبرة العلمية حتى أصبح ملحنا فى إطار هذه الخبرة، واكتسب السنباطى الأداء الغنائى من مدرسة الغناء القديمة، ولعب دورا فى تبسيط حركة الأداء اللحنى، وبذلك خلق أسلوبه فى الأداء الغنائى الشاعرى، وباستمرار التجربة العملية أصبح رياض ملحنا فى إطار تجربة موهبة ارتجال الألحان».
خصائص أسلوب السنباطى فى «الأطلال»، أولا تشكيل الألحان أحيانا بإيقاع حر شبيه بالإيقاع الحر فى كتابة النثر الأدبى، وأحيانا بالإيقاع الموزون فى الشعر، ثانيا الركوز من حين لآخر على نغمة الأساس فى سلم المقام الموسيقى، وهذا يساعد على إشباع مشاعر المستمع بلون المقام الموسيقى الذى يستخدمه فى تكوين الألحان، ثالثا الزخرفة النغمية وتظهر بوضوح فى عزف القانون والناى، ونستمع إلى هذه الزخرفة حول الخط الغنائى الذى تؤديه أم كلثوم، ويمكن تشبيه هذا النهج الموسيقى بقطع من نسيج الدانتيل، رابعا يبدو السنباطى متأثرا ببعض خصائص الأداء الأوركسترالى العالمى، وينحصر هذا التأثر فى استخدامه رعشة القوس فى الآلات الوترية- كمان وشيللو- وإحساس المستمع برعشة قوس الكمان قريب من إحساس المشاهد بألوان لوحة داكنة.
أما العناصر الموسيقية فى «الأطلال» فهى: أولا المقامات الموسيقية المستخدمة فى مصر والبلاد العربية، وتأخذ شكل سلالم من النغم ومنها تتكون الألحان، ثانيا ظهر استخدام السنباطى لإيقاعات الأذكار الدينية وبأداء الدفوف واضحا عند مقطع «هل رأى الحب سكارى»، ثالثا ظهر فى أداء أم كلثوم ملامح الأداء القرآنى فى مقطع «ومن الشوق رسول بيننا»، كما ظهر الأداء القصائدى القديم الذى يذكرنا بأداء أم كلثوم فى «أراك عصى الدمع»، وذلك عند مقطع «أيها الساهر تغفو تذكر العهد وتصحو»، وظهرت موهبة ارتجال الألحان عند أم كلثوم فى الخط اللحنى، وهى تؤديه بكلمة «آه» فى وقت تؤدى فيه الفرقة الموسيقية لحنا مختلفا تتكون منه اللازمة الموسيقية فى نهاية الأغنية.
أما أسلوب عبدالوهاب فى «هذه ليلتى»، فيذكره «جميل»: «أولا تشكيل الألحان ذات الإيقاع الحر بجانب تشكيل الألحان ذات الإيقاع الموزون، وتركيز الإحساس بالمقام الموسيقى، ثانيا استخدام الوقفات الموسيقية المفاجئة مثل الوقفة اللحنية غير المتوقعة فى تلحين مقطع «الهوى أنت كله الأمانى»، ثالثا اللازمة الموسيقية القصيرة ووظيفتها أساسا ربط المقاطع الغنائية، حولها عبدالوهاب إلى مقطوعات موسيقية متناقضة مع الخط الغنائى الذى تؤديه أم كلثوم، فبينما هذه المقطوعات تعكس طابع الموسيقى الأوروبية الخفيفة أحيانا، والسيمفونية أو الجاز أحيانا أخرى، نجد الخط الغنائى لأم كلثوم يعكس الطابع المصرى التقليدى الأصيل، وإذا عدنا للسنباطى وجدناه يلتزم باستخدام العناصر الموسيقية المحلية فى «الأطلال» وبأسلوب يعكس التطور السليم من أساليب ارتجال الألحان أو التلحين القديم».