فى الوقت الذى مثلت فيه الهدنة التى تم التوافق عليها خلال الأسبوع الماضى، انفراجة مهمة على طريق إنهاء العدوان الإسرائيلى الوحشى على قطاع غزة، يبدو أن سلطات الاحتلال مازالت متمسكة بانتهاكاتها والجرائم التى ترتكبها فى قطاع غزة، فى ظل مواصلة استهداف المدنيين، ومنشآتهم، وآخرهم استهداف مدرستين تأويان مئات النازحين، مما أسفر على استشهاد العشرات، وإصابة المئات، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن الهدف الحقيقى وراء العدوان يتجاوز فى جوهره مجرد الانتقام لأحداث "طوفان الأٌقصى"، أو حتى القضاء على الفصائل التى تتذرع إسرائيل بكونها مصدر تهديد مباشر لها، وهو ما يبدو فى آلاف الشهداء الذين سقطوا ومعظمهم من النساء والأطفال، والشيوخ والعجائز، والذين لا يمثلون أدنى خطر أو تهديد لأمن الدولة العبرية.
ولعل الحديث عن الهدنة، يدفع بقوة عن الدور الكبير الذى لعبته الدولة المصرية، ومعها قطر والولايات المتحدة، فى الوساطة، من أجل تحقيق تهدئة، تعتمد فى الأساس على قاعدة دولية كبيرة، وهو ما تمكنت مصر من تحقيقه، خلال مرحلة "ما قبل الهدنة"، عبر العديد من المسارات، ربما أبرزها الحاجة إلى التهدئة، ودحض ادعاءات الدفاع عن النفس التى تبنتها إسرائيل، بالإضافة إلى العمل على المسار الإنسانى من خلال توصيل المساعدات والمواد الإغاثية، ناهيك عن صفقة تحرير الأسرى الإسرائيليين مقابل إتمام صفقة تبادل الأسرى، والتى تحمل أهميتها نطاقا دوليا فى ظل وجود عددا من مزدوجى الجنسية، الذين تم احتجازهم لدى الفصائل فى 7 أكتوبر الماضى، وهو ما ساهم فى فرض المزيد من الضغوط على الاحتلال الإسرائيلى للرضوخ إلى الهدنة.
وفى الواقع لم تقتصر الضغوط على الاحتلال الإسرائيلى على الجانب الدولى، وإنما تمتد إلى الداخل، فى إطار شعبى، يبدو واضحا فى التظاهرات التى أطلقها قطاع كبير من مواطنى الدولة العبرية، للضغط على الحكومة، من أجل وقف إطلاق النار، وهو الأمر الذى وصل إلى حد حشد المئات منهم أمام السفارة المصرية فى تل أبيب، للمطالبة بدور مصرى لإطلاق سراح ذويهم من الأسرى، وهو ما يمثل انعكاس صريح لانهيار ثقة الإسرائيليين فى رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو وحكومته، وهو ما يمثل حالة "موت إكلينكي" للحكومة الحالية، وربما من ورائها تيار اليمين المتطرف بإسرائيل.
"الموت الإكلينكي" للحكومة الإسرائيلية يحمل فى طياته مسارات أخرى، بعيدا عن الأزمة الحالية فى غزة، ربما أبرزها، الانقسام الكبير بين أعضائها، الذين ينتمون إلى عدة أحزاب يمينية، فى ظل الفشل الذريع فى قطاع غزة، والعجز التام عن تحقيق أيا من الأهداف التى أعلنتها حكومة الاحتلال، منذ بدء العدوان، بينما تبقى قضايا الفساد التى تحاصر نتنياهو مسارا آخر نحو النهاية المحتومة للحكومة الحالية، مما يعكس أبعاد عميقة لحالة أشبه بـ"السرطان" السياسى، الذى يواجهه رئيس الوزراء الإسرائيلى، منطلقا من غزة، بينما تمدد إلى العالم، ومنه إلى داخل غرفة الحكومة، ليتنهى به المطاف شخصيا داخل قفص الاتهام، متهما بقضايا فساد.
وهنا يبقى إنهاء الهدنة، لم يكن أكثر من محاولة "إنعاش"، لحكومة "ميتة إكلينيكيا"، فى ضوء محاصرتها بثالوث "الفشل والانقسام والفساد"، لتجد فى مواصلة العدوان على غزة وسيلة جديدة لإطالة أمدها مجددا، وهو الأمر الذى بدا واضحا فى تصريحات وزير الطاقة الذرية الإسرائيلى ديفيد أمسام، تعليقا على استئناف محاكمة نتنياهو، بأنه من العار أن تستأنف محاكمة رئيس الوزراء فى ظل الحرب.
والهدف الرئيسى من إنهاء الهدنة، ومواصلة العدوان يتجسد بصورة واضحة فى محاولة إجبار سكان غزة، على مغادرة أراضيهم، وهو الأمر الذى أعربت مصر والدول العربية عن رفضه رفضا مطلقا، فى ظل ما سوف يسفر عنه من تقويض الشرعية الدولية ونهاية حل الدولتين، عبر تجريد الدولة الفلسطينية المنشودة من أهم عناصرها وهو المواطن الفلسطينى، خاصة وأن الرؤية المصرية والعربية تقوم فى الأساس على وحدة الأراضى الفلسطينية، فى قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، دون فصل أو انفصال، وهو ما تحاول حكومة نتنياهو تقويضه للخروج بإنجاز قد يشفع له فى مواجهة حلقات متواصلة من الفشل على النحو سالف الذكر.
ولذا كان التركيز المصرى منذ بداية العدوان على القضية، وليس مجرد القطاع، وهو ما بدا واضحا فى قمة القاهرة للسلام ولقاءات الرئيس عبد الفتاح السيسى مع زعماء العالم، وفى القلب منهم المسؤولين الغربيين، الذين أبدوا تعاطفهم المطلق مع إسرائيل مع بداية العدوان، ولكن تلك المواقف تغيرت تدريجيا بفضل الدبلوماسية المصرية، إلى الحد الذى أعلنت فيه دولا أوروبية، على رأسها إسبانيا وبلجيكا، نيتها للاعتراف بدولة فلسطين، وهو ما يمثل صفعة إضافية لنتنياهو، دفعته مباشرة لاستدعاء سفرائه من هناك فورا.
وهنا يمكننا القول بأن الدبلوماسية المصرية لعبت دورا رئيسيا فى مواجهة التحركات الإسرائيلية منذ بدء العدوان، ونجحت فعليا فى تحقيق حشد عالمى متوافق حول ضرورة التهدئة، وهو ما أسفر أولا عن الهدنة، بينما ساهم فى زيادة حدة الانتقادات التى تواجه الدولة العبرية بعد قرارها بمواصلة العدوان على غزة، وهو ما يزيد الأعباء على نتنياهو وحكومته، والتى تسعى، من وراء إنهاء الهدنة، إلى البحث عن انتصار، عبر محاولة فرض الأمر الواقع على العالم، والهروب ولو مؤقتا من مقصلتى الإقصاء والمحاكمة اللتين باتتا المصير المحتوم للحكومة الحالية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة