كانت الساعة الثامنة والنصف صباح 14 فبراير، مثل هذا اليوم، 1979، حين دقت خادمة الكاتب فكرى أباظة باب شقته كعادتها يوميا، فرد عليها: «مش قادر»، ثم سمعت صوت ارتطام جسده على الأرض، فأسرعت إلى سائقه، وبعض الجيران، وكسروا الباب ليجدوه ملقى على الأرض والدماء تسيل من جبهته، فحملوه إلى فراشه، وحضر شقيقه الأصغر لطفى، وبعد استدعاء الطبيب «أندريا» الذى يسكن بنفس العمارة، كان قد فارق الحياة، حسبما تذكر الأهرام يوم 15 فبراير، 1979، فى خبر بأعلى الصفحة الأولى، وتقرير موسع بالصفحة الأخيرة، وخصته بوصف «شيخ الصحافة».
كان يعيش وحيدا، حيث قضى عمره بلا زواج، ويذكر بأسلوبه الساخر فى كتابه «حواديت»، أنه ولد فى نهاية القرن التاسع عشر بقرية «كفر أبوشحاتة» بمحافظة الشرقية، وحين التقطته الداية من بطن أمه صاحت مستغيثة: «الحقونى، يا مصيبتى، الولد مش بن آدم، الولد عفريت».. كانت الداية أم خضرة معذورة، الشعر كثيف يملأ وجه الطفل الكثيف، وعينان مفعوصتان ولم يبكى رغم وخزه بإبرة، وحقنه.
يضيف: «ينمو الطفل ويكبر وهو لا يعرف الوجيعة ولا البكاء من نهاية القرن التاسع عشر حتى سنة 1934، أى بعد 34 عاما، حين وقع فى حب مطربة ذات تاريخ، وشهرة، وجاذبية، وكان محاميا ونائبا، فبذل لها من دمه وشرايينه وإخلاصه وحبه كل ما يملك من دم وشرايين وإخلاص وحب، فأنقذها من السجون، والدمار المالى، ومن إنكار بنوة كريمتها، وربح كل قضاياها ضد «مليونير شاب»، ثم كانت الفاجعة، خانته واكتشف الخيانة فجأة وهى متلبسة بها غارقة فى وحلها، هنا فقط من نهاية القرن التاسع عشر إلى نهاية 1934، بعد 34 عاما، بكى الطفل لأول مرة، وذلك الطفل هو أنا «فكرى أباظة».
يقدم «شيخ الصحافة» فى الحواديت، كما يقدم فى كتابه «الضاحك الباكى» جانبا من حياته الثرية بمواهبه، التى جمعت بين أن يكون محاميا، صحفيا، موسيقيا، سياسيا، مناضلا، رياضيا، ولاعبا فى الأهلى وعضوا من رموزه، حتى كان رئيسه الشرفى فى سنواته الأخيرة، ويذكر فى الحواديت أنه تخرج فى مدرسة الحقوق عام 1917، وممن فصلوا منها لأنه ممن قادوا رفض طلابها استقبال السلطان حسين كامل عند زيارته لها عام 1915، احتجاجا على تعيين الإنجليز له سلطانا للبلاد بعد أن خلعت الخديو عباس الثانى.
اعتنق مبادئ الحزب الوطنى الذى أسسه مصطفى كامل، وحين اندلعت ثورة 1919، كان يقضى مدة التمرين فى المحاماة بأسيوط، فكتب ولحن نشيدا للثورة، يقول فيه: «خدع الدخيل سكون/ وصبر طال مداه/ قال الخضوع فصحنا/ لا لا..لا لا..لا لا / لجأوا للدين وظنوا/ أن التوفيق محال/ فإذا الهلال صليب/ وإذا الصليب هلال»، ويذكر أنه ألقى هذا النشيد فى كنيسة الأقباط بأسيوط، مما أشعل فتيل الثورة، فقررت السلطات العسكرية الإنجليزية القبض عليه، لكنه نجح فى عمل جواز سفر على أنه «تاجر حمير»، ووصل القاهرة بالقطار العسكرى.
كان عام 1926 نقلة مهمة فى مساره، حيث أصبح رئيسا لتحرير مجلة المصور لمدة تزيد على ثلاثين عاما ورئيسا لمجلس إدارة دار الهلال، وانتخب نقيبا للصحفيين لأربع دورات من عام 1944، أنجز خلالها مبنى نقابة الصحفيين عام 1949، وفقا لتقرير عن أبرز أعماله على موقع دار الهلال، 14 فبراير 2022، أعده عبدالله مسعد، مشيرا إلى أنه كتب خلال فترة رئاسته للمصور أكثر من خمسة آلاف وخمسمائة مقالة، وكان صاحب مبدأ يقول عنه: «لن يبقى من الصحفى إلا ما وقع عليه باسمه، فإما أن يكون له أو عليه»، وعبر أمير الشعراء أحمد شوقى عن إعجابه به بقصيدة يقول فيها: «فكرى أذقت القوم عفو بلاغة/ وأزرفت محضا للنهى ولبابا/ من كل فاكهة وكل فكاهة/هيأت نقلا واتخذت شرابا».
فى نفس العام، 1926، نجح فى الانتخابات البرلمانية عن الحزب الوطنى لدائرة «سنهوا ومنشأة» وظل نائبا حتى اعتزل الحياة البرلمانية عام 1951، وعن سنواته فى مجلس النواب، يذكر الكاتب الصحفى مصطفى أمين فى مقدمته لكتاب «فكرى أباظة فارس المعارضة» للكاتب الصحفى فاروق أباظة: «كان فكرى أباظة أحد نجوم البرلمان المصرى، كان خطيبا رائعا ومحدثا ممتازًا أو مقاطعا ذكيا ومعارضا خفيف الدم، سهامه كانت تجرح الحكام ولا تسيل دماءهم، مكثت عضوا فى مجلس النواب المصرى خمس سنوات معه، كان مقعدى وراء مقعده، وكنت أسمعه يتكلم فيطربنى وكأنه يغنى، كان يستطيع بسخريته الضاحكة أن يحول جو الجلسة القاتم إلى جو مرح، وكان يستطيع أن ينتزع التصفيق من الذين يهاجمهم، فقد كانوا يعلمون أنه رجل مؤمن بما يقول، لا يريد لنفسه منصبا ولا جاها ولا مالا، وكان هذا سر قوته، لم يزد أعضاء حزبه «الحزب الوطنى» عن ثلاثة أو أربعة، ومع ذلك إذا تكلم أحسست أن وراءه أغلبية، وشعرت بأنه لا يتكلم بلسان النواب الأربعة، وإنما لسان مصر كلها».