أعلنت الحكومة البريطانية خلع الخديو عباس الثانى يوم 19 ديسمبر 1914، وتنصيب حسين كامل سلطانا على مصر فى نفس اليوم، فقابل المصريون الأمر بالسخط زاد منه المظاهرة العسكرية البريطانية التى صحبت الإعلان الرسمى لتولية العرش، وفقا لما يذكره الدكتور مصطفى الغريب محمد فى كتابه «السلطان حسين كامل من الإمارة إلى السلطنة» مؤكدا، أن المصريين قابلوا الموكب السلطانى لحسين كامل إلى قصر عابدين يوم 20 ديسمبر 1914 بالوجوم، وكان الحزن واضحا على الوجود فلم يُسمع هتاف أو تصفيق، وعندما مر السلطان فى ميدان عابدين فى طريقه إلى قصره بالمنصة التى يقف عليها العمد والأعيان صفقوا له تصفيقا ضعيفا، وكان كل منهم ينظر حوله ليرى ما يفعله الآخرون.
تنوعت مظاهر الرفض لحسين كامل ويذكرها «الغريب» قائلا، إنه فى نفس يوم الاحتفال بتتويجه ظهر طلاب مدرسة الحقوق يرتدون رابطات عنق سوداء، وذهبت معظم طالبات مدرسة البنات الثانوية متشحات بالسواد، وفى مساجد القاهرة كان دعاء الإمام لخليفة المسلمين يتكرر ثلاث مرات على التوالى، وفى كل مرة كان المصلون يرددون الدعاء بصوت عال يشترك فيه الجميع، وعندما دعا لسلطان مصر الجديد جاء رد المصلين ضعيفا وغير مسموع ، وكثير منهم لا يؤمنون على الدعاء، وصلى السلطان أول جمعة بعد توليه بمسجد السيدة زينب مع أنه كان مقررا أداء الصلاة بمسجد الحسين، لكنه غير وجهته فى اللحظة بعد أن علم بوجود مؤامرة ضده، وبقى رجال البوليس فى طريق مسجد الحسين للتمويه.
أمام هذا الرفض الشعبى حاول حسين كامل تهدئة مشاعر المصريين بوسائل عديدة، ويذكر «الغريب» أن المندوب السامى البريطانى اقترح عليه زيارة المدارس والمعاهد العليا لإذابة الجليد بينه وبين الشباب، فبدأ بالجامع الأزهر ثم بمدرسة القضاء الشرعى، ومدرسة الحقوق فى 18 فبراير، مثل هذا اليوم، 1915 والتى شهدت مفاجأة تتمثل فى مقاطعة طلابها للزيارة، بتغيبهم عن الحضور.
كان الكاتب والسياسى فكرى أباظة ممن شاركوا فى هذا الحدث، ويذكر فى كتابه «حواديت»: «حضر السلطان حسين بموكبه وحاشيته فلم يجد طالبا واحدا فى المدرسة، اضربنا عن مقابلته لأنه حل محل «ولى الأمر الشرعى» الخديو عباس الثانى بأمر من الإنجليز، وجرى التحقيق مع كل طالب فكان جواب كل واحد منا أنه وصلنا نعى مطبوع عن وفاة والد أحد الزملاء، وأن الجنازة الساعة العاشرة فذهبنا لأداء الواجب ولم نستطع العودة للمدرسة لاستقبال السلطان، وصدرت القرارات باعتقال 17 طالبا بمدرسة الأحداث بالجيزة، ويتأخر طلبة السنة الأولى عاما دراسيا، ويفصل الباقون فصلا نهائيا، وكنت واحدا منهم».
غير أن مصطفى الغريب يذكر القصة بتفاصيل أخرى، فالاتفاق على الإضراب كان بين بعض طلاب المدرسة وليس كلهم، وأن السلطان زار المدرسة فى موعده، وألقى كلمة فى أحد الفصول حرص فيها أن يبين دون الإشارة صراحة إلى سوء صنع الذين لم يحضروا، وقال: «سيروا فى طريق النور الذى استنارت به أذهانكم، وتفرغوا لدروسكم وإياكم والتطرف أو الاشتغال بما لا ينفعكم ولا يعنيكم، فأنتم لا تزالون شبانا يعوزكم الاختبار، وهذا الوطن هو وطنى ووطنكم، وقد وقفت حياتى على خدمته، وأنا أقدر منكم على إسعاده، فدعونى أعمل لخيره».
يعلق «الغريب» بأنه يبدو من كلمات السلطان عدم انشغاله بتغيب بعض الطلاب عن لقائه، غير أن الوقع كان عكس ذلك تماما، إذ بمجرد رجوعه إلى قصره اتصل بمكماهون المندوب السامى البريطانى، وأبلغه بما حدث، وطلب منه نفى الطلبة الذين رفضوا لقاءه إلى مالطة، وتدخل حسين رشدى رئيس الوزراء وعدلى يكن وزير المعارف العمومية واقترحا الاكتفاء برفت الطلاب وحرمانهم من الامتحانات، بل ومن دخول أى مدرسة عليا فى البلاد، والبحث عما إذا كان زعماؤهم هم سبب هذا التصرف ومعاقبتهم بالحبس، واقتنع السلطان أخيرا بهذا الرأى.
تذكر الدكتورة لطيفة سالم فى كتابها «مصر فى الحرب العالمية الأولى»، أن مجلس إدارة المدرسة قام بالتحقيق مع الطلاب، وحاولوا تبرير موقفهم، بأنهم اضطروا للغياب للمشاركة فى تشييع جنازة والد أحد زملائهم، وهو ما ثبت عدم صحته، حيث تبين أن عنوان الشخص المتوفى الذى ذكروه هو عنوان محل جروبى، وبعد انتهاء التحقيق اقترح المجلس على وزارة الحقانية رفت 54 طالبا وحرمان 31 من امتحان نهاية العام مع إيقاف تنفيذ الحكم الأخير بالنسبة لطلاب السنة الأولى وعددهم 18 طالبا، وصدقت الوزارة على الاقتراح، وتضيف سالم، أنه كان من الطلبة الذين تقرر رفتهم، أحمد مرسى بدر، ومحمد صبرى أبوعلم، ويوسف أحمد الجندى، وعبدالعظيم محمد الهادى، وحسن يس، ومن بين الـ18 طالبا، محمد عبدالله عنان، ومحمد محمود الذى أصبح رئيسا لمحكمة الاستئناف، والممثل المشهور سليمان نجيب.