-
البحث نتاج تعاون دولى بين علماء فى مجال الكيمياء الحيوية من المركز القومى للبحوث وعلماء مصريات وحفائر من عدة دول
أكد الدكتور أيمن عاشور وزير التعليم العالي والبحث العلمى، أهمية نشر البحوث العلمية المتميزة فى المجلات العلمية الدولية المرموقة، التى تُساهم بالارتقاء بترتيب الجامعات والمراكز البحثية بالتصنيفات العالمية، مشيدًا بنجاح فريق بحثى من المركز القومى للبحوث بالتعاون مع فريق بحثى دولى فى التوصل إلى عدة اكتشافات مُتميزة، ونشر الدراسة العلمية فى مجلة Nature والذى جاءت بعنوان: "التحليلات الجزيئية الحيوية تتيح رؤية جديدة فى التحنيط المصرى القديم"Biomolecular analyses enable new insights into ancient Egyptian embalming
وقام الباحثون بدراسة المقبرة التى تم اكتشافها على بُعد أمتار من هرم أوناس بسقارة، وترجع ورشة التحنيط للأسرة 26، وتقع على بُعد 30 مترًا تحت سطح الأرض، وتنقسم الورشة إلى غرفة التحنيط وتبعُد حوالى 12 مترًا من سطح الأرض وتم تجهيزها بمصاريف للتخلص من الأحشاء وغيرها من الفضلات، وهى مصممة للتهوية الجيدة حيث تأخذ عملية التحنيط حوالى 70 يومًا تقريبًا، أما غرفة الدفن فتقع على بُعد 30 مترًا من سطح الأرض وقد تم العثور على قناع من الفضة بحالة جيدة، وهذا دليل على أن هذه الأسرة كانت غنية، وذلك لندرة الفضة فى مصر القديمة، كما تم اكتشاف 121 وعاءً فخاريًا وكوؤس من القيشاني.
وفى هذه الدراسة، تم اختيار تحليل 31 وعاءً فخاريًا يحتوى على بقايا مواد التحنيط من ورشة التحنيط بسقارة، وتم وضع علامات على هذه الأوانى وفقًا لمحتواها مما يمكننا من خلالها ربط المواد العضوية بأسمائها المصرية القديمة ومواصفاتها وممارسات التحنيط، حيث تعتبر ورشة التحنيط بسقارة الوحيدة التى تم العثور فيها على أوانى التحنيط بصورة سليمة، ومكتوب عليها باللغة الهيروغليفية، وتم فى هذه الدراسة تحديد مخاليط مُحددة من الزيوت العطرية أو المطهرة والقطران والراتنجات التى كانت تُستخدم لتحنيط الرأس ومعالجة الأغطية الموضوعة على المومياء بواسطة جهاز التحليل الكروماتوجرافى الفازى (مطياف الكتلة).
وساهمت الدراسة فى فهم تفسيرات موسعة منها تسليط الضوء على الوضع الاجتماعى والاقتصادى لمالك المقبرة، وكذلك الحصول على تفسيرات حول المستوى الكُلى للمجتمع، وقد أظهرت النتائج من خلال تحديد المواد العضوية غير المحلية، إعادة بناء شبكة التجارة ومعرفة مصدر هذه المواد التى زودت المُحنطين المصريين القدماء بالمواد اللازمة للتحنيط، حيث أن غالبية المواد المُستخدمة فى ورشة سقارة كانت مستوردة، وكثير منها كانت من مسافة بعيدة.
وقد تم تحليل بقايا المركبات العضوية فى أوانى التحنيط فى المركز القومى للبحوث من خلال شبكة المعامل المركزية (معمل الكروماتوجرافي)، ووجد أن هذه الأوانى تحتوى على خليط من الزيوت العطرية، مثل: زيت الأرز، والقطران، ودهن حيوانى وبعض الراتينجات الصنوبرية، واتضح من الدراسة أن عملية التحنيط تختلف حسب العضو المُحنط، وأن كل عضو له خلطة مُتخصصة من الزيوت والراتنجات والدهون النباتية والحيوانية وليس خلطة واحدة، وبهذا أظهرت نتائج البحث لأول مرة أن المصريين القدماء لم يستخدموا نفس المواد الحافظة لحفظ أجزاء الجسم المختلفة ولكن تباينت المواد الحافظة ومكوناتها من جزء لآخر.
وحددت الدراسة العديد من المخاليط المُستخدمة لتحنيط الرأس أو التفاف الجسم فى هذه الدراسة، ويبدو على متخصصى التحنيط أنهم كانوا على دراية بكل من الخواص الكيميائية والنشاط الحيوى للمواد المُستخدمة والتى حصلت على معرفة مُعقدة حول إعداد خلطة مُختلفة من مكونات معينة، حيث أنه معروف فى علم المصريات أن كلمة "sefet" يُطلق على زيت مجهول الهوية وهو زيت من سبع "زيوت مقدسة"، وتم استخدامه فى التحنيط ولم يتم التعرف على مكوناته، حيث وجد فى ثلاث أوعية من ورشة المُحنطين تحمل علامة "sefet" فى ورشة التحنيط بسقارة، وتم تحديد فيها نوع المركبات وكانت عبارة عن دهن حيوانات تم خلطها فى اثنين من هذه الأوعية مع الزيت أو القطران من أشجار الصنوبر، وأثبتت عملية التحنيط أنها ساهمت فى بناء وتعزيز التبادل التجارى فى حوض البحر الأبيض المتوسط وكذلك الغابات المطيرة الآسيوية وربما الأفريقية، مما قد يسهم فى رسم خريطة التبادل التجارى بين مصر القديمة ودول العالم.
وقد ساهم توافر التقنيات المُستخدمة فى تحليل الراتنجات والزيوت المُكتشفة فى أوعية مُستخرجة من المقبرة المُكتشفة فى سقارة بشبكة المعامل المركزية بالمركز القومى للبحوث، بأنه ليس هناك داعى لخروج هذه المواد الأثرية الثمينة خارج الوطن لتحليلها، كما ساهم فى تحليل تلك المواد الطبيعية الحافظة التى استخدمها المصريون القدماء فى حفظ المومياوات، كما أسهمت النتائج بالتأكيد أن المصريين القدماء جلبوا المواد الطبيعية المُستخدمة فى التحنيط أو حفظ الأنسجة أو النباتات التى تستخرج منها تلك المواد من دول بآسيا أو أفريقيا الإستوائية مما يؤكد أنهم لم يكونوا يعملوا بطريقة عشوائية ولكنهم علموا أن تلك النباتات دون غيرها تحتوى على المواد الفعالة المرجوة ذات التأثير المُضاد لتحلل المومياوات والأنسجة، مما يعكس بشكل شبه قاطع أن تلك المواد الفعالة قد تم تعريفها من قبل المصرى القديم باستخدام منهج علمى وبحثى يجعلها دون غيرها تُستخدم فى ذلك الغرض كما فتح الباب لتساؤل عما إذا كان المصرى القديم على دراية بالميكروبات التى تتسبب فى تحلل أجساد الموتى وحاول اكتشاف مضادات لتلك الميكروبات بشكل مُتخصص وهو ما يمكن طرحه فى أبحاث مستقبلية، كما عكست الخلطات المتباينة التى استُخدمت فى معالجة أجزاء الجسم المختلفة أيضًا أن ذلك كان وليد أبحاث دقيقة، وصنف فيها المصرى القديم التراكيب والمخاليط الطبيعية المختلفة بناءًا على تركيب وطبيعة الأنسجة المرجو حفظها مما يعكس دراية بطبيعة تركيب الأنسجة المختلفة للجسم، وخلص الفريق البحثى فى الورقة العلمية أن المصرى القديم كان يقوم بهذا بشكل مؤسسى ومنهج علمى وبحثى واضح.
ويعُد هذا البحث نتاج تعاون دولى مُثمر بين علماء فى المصريات والحفائر من ألمانيا وفرنسا وعلماء فى مجال الكيمياء الحيوية من مصر، مما أضفى على البحث قيمة تكاملية، كما ساهم فى إنشاء شبكة المعامل المركزية، ومراكز التميز بالمركز القومى للبحوث بتركيبها البينى المُتفرد وتوفير الظروف المواتية لإجراء ذلك التعاون الدولى فى إطار اتفاقية تفاهم بين المركز القومى للبحوث وجامعة توبنجن فى ألمانيا فى خروج هذا البحث للنور فى إحدى أكبر الدوريات العلمية العالمية، وتعظيم مشاركة الجانب المصرى به.
الجدير بالذكر أن الفريق البحثى المصرى مكون من د. محمود محمد بهجت أستاذ الكيمياء الحيوية ورئيس قسم الكيمياء العلاجية والمُشرف العام على شبكة المعامل المركزية ومراكز التميز، ود. محمد إبراهيم محمد رئيس قسم سموم ومُلوثات الغذاء والمُشرف على معمل الكروماتوجرافى بشبكة المعامل المركزية، ود. أحمد محمود يوسف رئيس قسم مواد التعبئة والتغليف والثلاثة أساتذة بالمركز القومى للبحوث، كما يضم الفريق البحثى الدولى باحثين من ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وإيطاليا.