ثنائية القدرة والقرار، ومن قبلهما الفهم السليم للواقع وما يحدث على الأرض، والتخطيط المسبق المبنى على معلومات واضحة، ومعطيات محددة، هما عنصرا الحسم فى معركة التضحية والبناء اللذان سارت عليهما الدولة المصرية بالتوازى لإحداث تغيير جذرى فى شكل وبنيان الدولة المصرية منذ 2013 وحتى اليوم، ولإيقاع أكبر هزيمة بأخطر تنظيم إرهابى عرفه التاريخ، لتكون المقولة المصرية الخالدة إن «الإرهاب سينتهى وأنه لن يكون هناك إرهاب فى بلد طالما كان شعبها على قلب رجل واحد».
قبل 2013، وتحديدا قبل ثورة الثلاثين من يونيو 2013، كان المخطط الواضح للدولة المصرية من جانب الجماعة الإرهابية التى تولت المسؤولية فى غفلة من المصريين والزمن أيضا، هو تجزئة الدولة إلى كيانات متضادة، أشبه بدويلات صغيرة، وكانت البداية بمنطقة سيناء، التى سمحوا لعناصر وميليشيات إرهابية مسلحة أن تستوطنها، ليكونوا تحت أمرة الجماعة وقت الحاجة، واللافت أن هذا المخطط لم يكن وليد لحظة الثورة الشعبية المصرية على نظام الفاشية الدينية الإخوانية فى 2013، بل إنه كان محل تخطيط مسبق، أشار إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى، أمس الأول الخميس، خلال الندوة التثقيفية الـ37 للقوات المسلحة المصرية بمناسبة «يوم الشهيد»، حينما روى لكل المصريين وقائع تحدث عنها لأول مرة تكشف حجم المخطط الذى كان يستهدف الدولة المصرية.
الرئيس السيسى قال: «أنا سأتحدث معكم كشاهد عيان من أجل أن تعلموا أنه ليس هناك شىء ينفذ وليد اللحظة، بل هناك فكر وتخطيط وترتيب وإجراءات لما حدث من أجل الوصول فى النهاية إلى ما وصلنا إليه خلال السنوات العشر الماضية.. وأنا أقول وقائع حيث كنت نائبا لمدير المخابرات الحربية فى 2009، وكنا نعقد لقاءات من أجل مناقشة الوضع الأمنى فى سيناء بحضور مدير المخابرات الأسبق اللواء مراد موافى، ورئيس جهاز أمن الدولة «الأمن الوطنى» الأسبق اللواء حسن عبدالرحمن، وخلصنا إلى أنه تم خلال سبع سنوات تشكيل بنية أساسية ضخمة للإرهاب فى شمال سيناء وهى عبارة عن مخازن للأسلحة والذخيرة والمفرقعات وأيضا عناصر بشرية كبيرة للسيطرة».
وأضاف الرئيس السيسى فى شهادته التاريخية: إنه «بالعودة إلى مواقع التواصل خلال الفترة من 2008 و2009 سوف ترون أنه كانت هناك أفلام للعناصر الإرهابية وهم ينظمون عروضا عسكرية وكأنهم خارج إطار الدولة، وكان التشخيص للوضع آنذاك بأنه توجد مشكلة كبيرة فى سيناء وأن الكتلة الإرهابية التى تشكلت على مدى السنوات من 2005 إلى 2008 وتحتاج إلى جهد وعمل عسكرى مشترك كبير من الشرطة والجيش من أجل التدخل، لمواجهة هذا الخطر ولكن لم يتم تنفيذ ذلك حيث كانت هناك ظروف واتفاقيات تحكم الوضع فى سيناء، تنص على تواجد قوات شرطة محدودة وقوات من الجيش موجودة فقط على المنطقة (أ) فقط وظل الموضوع كذلك».
وأكمل الرئيس السيسى شهادته التاريخية بقوله: «المؤامرة اتضحت فى عام 2011 فبينما الناس مشغولة فى الميدان كان يتم تخريب مقدرات الدولة المصرية المتواجدة فى شمال سيناء من خلال الاعتداء على الأقسام والمديريات وكل ما يتعلق بمؤسسات الدولة، وتم الإعلان عن ولاية وقضاء شرعى للإرهابيين «على حد تعبيرهم»، مضيفا: «فى يوم 28 يناير 2011 خرجت الأمور عن السيطرة وتحدثت إلى وزير الدفاع آنذاك المشير محمد حسين طنطاوى «رحمه الله» وأبلغته أن مشكلة كبيرة جدا قد تنشأ لو استمر الأمر على هذا الوضع لأنه كان من الممكن للإرهابيين القيام بعمليات عبر الحدود ضد إسرائيل، وكان يمكن لها أن ترد وكان هذا سيمثل مشكلة تؤدى إلى صراع كبير وربما كان هذا هو هدفهم فى النهاية، وكان القرار من المشير طنطاوى الدخول بقوات».
وأكد الرئيس السيسىى أنه يروى هذا الكلام «حتى لا نغفل أو ننام على أى شىء داخل مصر وأيضا من أجل الانتباه من أى شىء يمس أمن مصر من الخارج».
مخطط فصل سيناء عن مصر
ما أشار إليه الرئيس السيسى هو جزء من مخطط كان يستهدف الدولة المصرية، ومحله فى هذا التوقيت «سيناء»، فقد كانت هناك أجزاء أخرى لهذا المخطط التدميرى تشمل العديد من المدن الحدودية، التى أرادت الجماعة الإرهابية أن تحولها إلى بؤر توتر، ونقاط ساخنة على طول الخط، لتكون الباب الذى ينفذون من خلاله إلى الهدف الأكبر بالنسبة لهم، وهو تقسيم مصر، والعمل على تدميرها بشتى الطرق.
كان هذا هو المخطط، وكانت الصورة شديدة الوضوح، حتى قبل 25 يناير 2011، لكن لم تكن الإرادة متوافرة لمجابهة كل هذه المخاطر والتحديات، وربما كما سبق وأشار الرئيس السيسى فى أكثر من مناسبة، مرجعه إلى تراكم الضغوط والتحديات والأزمات التى كانت تلاحق الدولة فى هذا التوقيت، وزاد منها ما حدث فى أعقاب 2011، من حالة فوضى مخططة، كانت تمثل شارة التحرك لعناصر هذه الجماعة للتحرك نحو التنفيذ الفعلى لخطة التمكين، وفى نفس الوقت جعل بعض المناطق، ومنها سيناء جاهزة لأى طارئ قد يحدث، أو بمعنى أدق «نقاط التهاب ساخنة» وجاهزة للوقت المناسب.
فى هذا التوقيت كانت الصورة واضحة أمام المسؤولين عن الدولة المصرية حينها، وتحديدا بعد 2011، وبدأ تحرك أشار إليه الرئيس السيسى، لكن كانت الأوضاع الداخلية أكثر ضغطا، وحاولت القوات المسلحة وسط كل الأزمات المتلاحقة والتى يمكن التأكيد أنها كانت مصنوعة من تيار بعينه، لإشغال المصريين وكل مؤسسات الدولة بها، وترك الفرصة لعناصر فى سيناء لتكثيف تواجدهم، خاصة أن عملية التسفير كانت مستمرة من بلدان خارجية إلى سيناء عبر ممرات ومنافذ غير شرعية.
بعد 2013، وحينما أسقط المصريون الحكم الإخوانى، تفجر الوضع فى سيناء، كما كان مخططها له مسبقا، وكان الهدف هنا أن تكون سيناء نقطة انطلاق لإرهاب يشمل كل محافظات الجمهورية، وأيضا استمرار إلهاء الدولة المصرية بما يحدث فى سيناء، وترك مشاغل ومتطلبات الدولة والمصريين، لتحدث ثورة مضادة.
ومن هنا جاءت ثنائية القدرة والقرار.
القرار المصيرى الذى أنقذ مصر
الثنائية التى تمسك بها الرئيس السيسى، لأنه منذ البداية مدرك لحجم وخطورة التحدى، وفى نفس الوقت لديه بيان واضح بكل متطلبات الدولة، ومن هنا اختار الرئيس القرار المصيرى الصعب، فبدلا من الارتكان فقط إلى خوض غمار معركة تحدى الإرهاب، استند إلى معرفته الحقيقية بطبيعة ومعدن الشعب المصرى، فقرر السير على مسارين متوازيين، مجابهة الإرهاب للقضاء عليه، ليس فقط فى سيناء، وإنما فى كل شبر بالدولة، وأيضا إطلاق أكبر معركة تنموية وتعميرية تشهدها الدولة المصرية منذ سنوات طويلة، وإعادة جزء من حقوق الشعب التى كانت مهدرة فى حياة كريمة، بكل عناصرها المختلفة، صحة وتعليم وسكن، وغيرها.
واستند الرئيس السيسى فى هذا القرار المصيرى إلى مجموعة من المعطيات، أهمها إيمانه الشديد بقدرة الدولة المصرية، وشخصية المصرى على مواجهة التحدى أيا كان مصدره، لأنه يملك أقوى سلاح، وهو سلاح الإرادة، ومن هنا كان القرار الذى أشهد بحق أنه لا شخص آخر بخلاف الرئيس السيسى كان قادرا على اتخاذه، لأن الجميع كان يدرك أن هذا القرار شديد التكلفة، لكن فى نفس الوقت نحن فى أمس الحاجة إليه، فالدولة كانت شبه منهارة فى خدماتها وبنيتها التحتية، وتعانى الكثير من القصور الذى لم يترك قطاعا إلا وأصابه، من هنا جاء القرار بالسير فى المسارين بالتوازى، خوض معركتين فى آن واحد، معركة ضد الإرهاب، ومعركة للتعمير والتنمية.
واليوم ونحن ندخل العام التاسع من هذا القرار المصيرى، نشهد بل ونجنى ثمار ما اتخذه الرئيس السيسى من قرارات مصيرية وتاريخية، فسيناء التى كانوا يخططون لها أن تكون إمارة مارقة، ها هى اليوم تستعد لاستقبال مئات الآلاف من الوافدين إليها لينعموا بخيراتها وثرواتها، بعد تأسيس بنية تحتية قادرة على استيعاب أكثر من مليون ونصف المليون مواطن، فضلا عن مشروعات استثمارية وبنية تحتية لا تقل عن تلك الموجودة فى كل المدن المصرية، مع ربطها بمحيطها الداخلى والعالم من خلال شبكة مواصلات وطرق ومطارات وموانئ لم يكن لأحد أن يتخيل توافرها إلا بعد عشرات السنين.
سيناء هدية مصر للشهداء
ما يحدث فى سيناء هو خير شاهد على صواب القرار، وقوة القدرة والإرادة المصرية، وحسن التخطيط، ومن قبله الإيمان بحتمية المعركة وعدالة القضية.
وما تحقق كان نتاج جهد طويل وعمل متواصل، وأيضا تضحية كبيرة من شهداء قدموا أرواحهم ودماءهم فداء للوطن ودفاعا عن ترابه الطاهرة، لذلك كانت احتفالية «يوم الشهيد» أمس الأول الخميس التى نظمتها قواتنا المسلحة معبرة عن هذا المشهد الذى نراه اليوم متحققا فى كل ربوع الجمهورية، وهنا استوقفنى فى هذه الاحتفالية اسم الفيلم التسجيلى «القطرة» فهو لخص الحالة التى عشناها وكانت شاهدة على القطرات التى يستنزفها الإنسان فى سبيل تحقيق الإنجازات والتطورات وتغيير الواقع فى البلاد سواء أكانت قطرات من العرق أو الدم أو الدمع على شهداء الوطن، وهنا نتذكر جميعا ما قاله الرئيس السيسى قبل سنوات: «يا مصريين فى ثمن كبير قوى دُفع من أجل بقاء باقى الشعب، وأقل ثمن يمكن أن يدفع الآن هو أننا نحافظ على تضحيات زينة شباب مصر التى بذلت من أجل بقاء الشعب».
هؤلاء الشباب هم بالفعل زينة الوطن، ورموز خالدة فى وجدان وذاكرة مصر، ومصدر فخر واعتزاز لأسرهم وأهلهم وأبنائهم، فكما قالت إحدى أمهات الشهداء فى الاحتفالية: «شرف لنا وكرم من عند ربنا إن كرمنا بالشهادة، وفخر لى أن يكون لدى شهيدان وأنا على أتم الاستعداد للشهادة دفاعًا عن الوطن ولكى يعيش الشعب المصرى فى أمن واستقرار بفضل الله -سبحانه وتعالى- والقوات المسلحة، وأنتم سند لنا بعد الله»، مضيفة: «الحمد الله إن بلدنا فى استقرار ولم نهجر منازلنا».
وعد وعهد
«لن نترك سيناء لأحد، إما أن تبقى سيناء مصرية خالصة وإما أن نموت على أرضها».. وعد وعهد قطعه الرئيس السيسى على نفسه أمام كل المصريين، واليوم يفى بالوعد والعهد، مذكرا فى الوقت نفسه المصريين بأن التاريخ سيذكر لمصر «أنها تصدت وجابهت أخطر فكر متطرف إرهابى لو تمكن من الأرض لحرقها».
اليوم وفى الرئيس بالعهد والوعد، وأصبح الإرهاب من التاريخ، لكن وكما قال الرئيس السيسى علينا أن نكون دائما منتبهين، وأن تكون الدولة المصرية دائما منتبهة وفى يقظة تامة لما يحاك ضدها، وأن يظل «السلاح صاحى» فى مواجهة العناصر الإرهابية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة