للقاهرة أسرارها منها من فصح عنه التاريخ ومنها لازالت أسراره كنز، وإن كانت مفاتيحه مثيرة للجدل، وضمن سلسلة أسرار القاهرة، نسلط الضوء على منطقة العتبة الأكثر توهجا فى القاهرة، رمانة الميزان، المركز التجارى، العتبة الفاصلة بين القاهرة الفاطيمية وصحراء المماليك وأضرحة آل البيت من جهة، ومن الجهة الأخرى، بوابة للقاهرة الخديوية، تختزن العتبة كثافة تاريخية هائلة، جعلتها محور جوهرى لأسرار القاهرة.
تختزن العتبة كثافة تاريخية هائلة، وهذه الكثافة جعلتها تمثل ثقلًا كبيرًا كإحدى أهم مناطق القاهرة، بل هى نقطة الأصل، فمن ميدانها الشهير بالعتبة الخضراء، والذى إليه تُقاس المسافات على الطرق السريعة، وذلك حسبما ذكر الكاتب والمؤرخ عباس الطرابيلى بـ"صرّة العاصمة" فى كتابه "شوارع لها تاريخ".
ويسرد عباس الطرابيلى فى كتابه، قصةَ تخطيط منطقة العتبة، حيث يقول أنه ثمة بركتان كانتا ملء السمع والبصر فى القاهرة، فى عصر محمد على الكبير؛ الأولى بركة الفيل، والثانية بركة الأزبكية، وهى ما تبقى من بركة بطن البقرة، ويرجع اسمها إلى الأتابك أزبك بن ططخ الذى قام بتعميرها بعد أن كانت منطقة خربة. سكن الأمير أزبك بجوارها بعد أن أزال منها تلال القمامة، ومهد الأرض، وجدد حفر البركة، وبنى رصيفًا حولها.
قال الخديو لهوسمان: "أريد الأزبكية قطعةً من باريس، تجمع بين جمال حدائق الغابة السوداء (غابة بولونيا) بباريس وبين منطقة أوبرا باريس والأحياء التجارية حولها وشجعت هذه العمليات الأهالى، فانطلقوا يبنون حولها بيوتهم لتتحول الأزبكية إلى حى كبير، تسكنه البرجوازية القاهرية، ثم أنشأ الأمير أزبك مسجدًا كبيرًا، وانتشرت حوله الحمامات والطواحين والربوع".
ففى عام 1495 قرر سيف الدين أزبك الظاهرى، الذى كان من أحدث أبناء جيل المماليك فى مصر، بناء منزل ومسجد على أرض الأزبكية منتصف القرن الرابع عشر الميلادى، ومن هنا بدأت هوية المنطقة تتبلور وتظهر معالمها، فانتشرت الأسواق وضخت فى شرايينها حركة البيع والشراء إلى أن وطأت أقدام العثمانيين مصر عام 1517، فأقاموا خيامهم ومرابط خيولهم حول بركة الأزبكية بجوار قصر "الثلاث ولية" وفى رواية أخرى "الثلاث ولايات" المملوك للحاج محمد الدارة الشرايبى شاة تاجر البن الأول فى مصر أن ذاك فى أرض الأزبكية، الكائن على الحافة الشرقية للبركة ثم تملك هذه الدار من بعده الأمير رضوان كتخدا الجلفي" أحد كبار أمراء المماليك، فجددها وطورها وزينها وبالغ فى زخرفتها فصارت سراية عملاقة مزدانة بعتبة زرقاء ضخمة، ثم اشتراها الأمير محمد بك أبو الدهب، إلى أن انتقلت ملكية سرايا العتبة إلى الأمير طاهر باشا الكبير الذى كان ينافس على بك الكبير على السلطة ثم تملك السرايا قريب للأمير طاهر باشا الذى ولاه محمد على نظارة الجمارك واستمرت السرايا بيد ورثته إلى أن اشتراها عباس باشا حلمى ثالث ولاة أسرة محمد على والذى حكم مصر بين عامى 1848- 1854 فهدمها ووسعها وبناها من جديد على أن خصص السرايا لإقامة والدته أرملة الأمير طوسون واستمرت كذلك إلى زمن الخديو إسماعيل، فقد هدمها عباس حلمى وأعاد بناءها، وأمر بتغير لون عتبة السرايا للون الأخضر، وأطلق عليها اسم "العتبة الخضراء"، لأنه كان يتشاءم من اللون الأزرق، أى أن الأصل هو ميدان "العتبة الزرقاء" قبل أن تصبح العتبة الخضراء فى عهد عباس حلمى الأول، إضافة إلى المساحات الخضراء الهائلة التى تزين المكان.
وفى عام 1798م كان الأوربيون يسكنون فى حى الموسكى وكانت البضائع الأوربية تباع فى الموسكى وفى الشوارع المجاورة، وفى عهد الخديو إسماعيل تمّ تكليف المهندس المسئول عن تطوير القاهرة الخديوية "هوسمان"، بإعادة تخطيط منطقة الأزبكية، وأصبحت هذه السرايا فى وسط الميدان، الذى اُطلق على جزء منه اسم "العتبة الخضراء"، وعلى الجزء الآخر "ميدان أزبك"، وفيما بعد أصبحت مقرًا للمحكمة المختلطة، فى عهد وزارة نوبار باشا، قبل أن يتم هدمها نهائيًا أثناء عمليات توسيع الميدان.
وتعتبر النهضة الثقافية والتطور الحضارى الكبير الذى شهدته منطقة العتبة كان فى عهد الخديو إسماعيل، وبحسب كتاب "خطط الطرابيلي.. أحياء القاهرة المحروسة" للمؤرخ عباس الطرابيلى قائلا: "لم يكن هدف الخديوى إسماعيل مجرد تجميل منطقة الأزبكية (العتبة حاليًا)، بل كان يُخطط لتحويلها إلى دُرّة ومنارة للعاصمة، ولهذا كلف المهندس الفرنسى الشهير فى تخطيط المدن (هوسمان)، بتخطيط منطقة الأزبكية. وقال الخديوى لهوسمان: أريد الأزبكية قطعةً من باريس، تجمع بين جمال حدائق الغابة السوداء (غابة بولونيا) بباريس وبين منطقة أوبرا باريس والأحياء التجارية حولها. وبالفعل خصص هوسمان مساحة كبيرة من الأزبكية، لتصبح على غرار غابة بولونيا فى قلب باريس، وعهد بتخطيطها إلى المهندس الفرنسى باريلى ديشان بك. وقد تم ردم بركة الأزبكية عام 1864".
وعندما قرر إسماعيل تخطيط منطقة الأزبكية وردم ما بقى من البركة اختفى جزء كبير من السرايا بسبب هذا التنظيم وبقى منها القصر العظيم الذى أصبح مكانه المحكمة المختلفة خلف دار الأوبرا القديمة وبجوار صندوق الدين الذى هو الآن مقر مديرية الصحة بالقاهرة بجوار مبنى البوسطة.
فى عهد الخديو إسماعيل أواسط القرن التاسع عشر، شهدت منطقة العتبة تحولًا فعالًا فى شكلها وبنيتها التحتية. تم تقديم الترام لأول مرة فى مصر لربط بعض الأماكن النائية ببعضها البعض وبالفعل وانطلق أول ترام فى مصر من ميدان العتبة عام 1896 وذلك وفقًا لكتاب "ترام القاهرة: دراسة تاريخية واجتماعية وأدبية" تأليف محمد سيد كيلاني.
وفى عام 1868 أمر الخديو إسماعيل بالبناء على أرض الأزبكية، بعد ترميمه مسرح ودار أوبرا، صممه المهندس المعمارى الإيطالي. فيروتشى، تم تصنيف تصميم المبنى تحت العصر المعمارى الأوروبى فى العصور الوسطى، وبعد الحرب العالمية الأولى، انتهى الأمر بالعديد من الأشخاص الذين فروا من أوروبا المدمرة إلى البحث عن فرص لإعادة التوطين فى القاهرة ومع وجود العديد من طلاب شمال إفريقيا الذين يدرسونإن ذاك، أصبحت القاهرة مجتمعًا عالميًا يضم مختلف الثقافات، لذلك تم تقديم العديد من العروض والأوبرلية الأوروبية والدولية، إضافة على ذلك كان للمسرح نكهته الفريدة، حيث اكتسبت العديد من المسرحيات شعبية كبيرة، بقيادة يعقوب سنوا المصرى المؤسس للمسرح العربى الحديث، وفى السنة نفسها تم إنشاء أول سوق عام فى الخديوية القاهرة بميدان العتبة ليكون الأول فى الشرق الأوسط لتصنيع وبيع جميع المنتجات المباعة فى مصر، والاعتراف بمنتجات النسيج المصرية المتوفرة دوليًا، إلى جانب المنتجات الجلدية مثل الحقائب والأحذية.
اشتهر سوق الموسكى بشكل خاص بكونه نقطة تركيز للتجار اليهود المصريين الذين اعتادوا نقل حرفهم إلى الأجيال الشابة، حتى بدأوا فى مغادرة مصر تدريجيًا بحلول منتصف القرن العشرين، إلى أن ازدهرت ساحة العتبة بالمحال التجارية المحاطة بشوارع تجارية حيوية لكل فى تخصصه من حيث البيع والشراء وعرض المنتجات.
واجه الخديو توفيق، عندما قرر إنشاء سوق بالقاهرة فى منطقة العتبة الخضراء، مشكلة كبيرة، وهى مغالاة أصحاب العشعش والبنايات فى القاهرة كثيرًا، فى المقابل المادى الذى وضعوه للتنازل عن أراضيهم التى يشغلونها، مما جعل المشروع وشق شوارع للسوق كادت أن تتوقف للأبد لولا تدخل الحكومة
وبدء العمل فى سوق العتبة عام 1886م وتم افتتاحه عام 1891م وكان يعرف بسوق الخضار ويؤكد جان لوك أرنو فى كتابه "القاهرة إقامة مدينة حديثة " والصادر من المجلس الأعلى للثقافة "إنه بينما كان يجرى بناء سوق العتبة فى عام 1890م وضعت الإدارة المسؤولة على إنشاء السوق مشروعًا لشق شارع بطول 80 مترا يمتد ما بين الواجهة الشمالية للسوق وشارع الموسكى التجارى، مؤكدًا أن الطرف الجنوبى من المنطقة كانت تشغله عشعش غير مسكونة وفى طرفه الشمالى عند الموسكى بنايات وقد قام أصحاب العشعش بطلب مبالغ خرافية من الحكومة لنزع الملكية، وكذلك قام أصحاب البنايات بطلب مبالغ خيالية.
كانت المبالغ الخيالية المطلوبة كفيلة بتوقف السوق، إلا أن الحكومة المصرية تنبهت بعد إقامة السوق وبالتحديد عام 1895م بتغيير القانون الذى وضع أسسه وقواعده الخديو إسماعيل، وقررت أنها لن تقوم بدفع مبالغ مادامت المنطقة هى فى الأساس منفعة عامة، ومع صدور قانون 1903م فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى أصبحت العتبة مركز تجارى مهم إذ سمح بتسهيلات كبيرة للأجانب والأوربيين بإنشاء محلات فى مصر فى الأسواق وفى المناطق الحيوية بالقاهرة.
وفى عام 1889 شاركت مصر فى معرض زراعى عالمى ضخم بباريس، وذلك قبل افتتاح سوق العتبة، حيث قدم الوفد المصرى بتقديم نماذج من المشربيات القديمة، ومنارة جامع قايتباى بأحد جوانب المعرض، ومساكن مصرية عتيقة، وهى على شكل هياكل ومناظر تعرض حال مصر ومنازلها وتم تعليق تماسيح على الأبواب، كما تم عرض نماذج لصانع القلل القناوى والفخار الأسيوطى فى معرض باريس.
وتعتبر فكرة المولات التجارية والصيحات الإعلانية عن المنتجات التجارية العالمية منشأها منطقة العتبة، محلات شتاين التاجر النمساوى كانت تشبه المولات فى وقتنا الحالى وكانت تضم المحلات أول واجهات زجاجية أما محلات براين فقد ظهرت الإعلانات تقول أن بها أى شيء تطلبه مؤكدا أن فكرة السوق مصرية خالصة، فكان سوق العتبة يضاهى أسواق باريس، فى تصميمها، وأناقتها، إلى أن اختفت هذه الصورة الملونة، تحت الحرائق المرعة التى شهدتها القاهرة.
بائع العرقسوس في ميدان العتبة عام 1900
شارع الموسكي عام 1905
شارع الموسكى عام 1910
مبنى المطافي في ميدان العتبة عام 1905
العتبة الخضراء فى بدايات القرن الماضى
مدخل الموسكى بالقاهرة عام 1890
منطقة الموسكى عام 1910م
ميدان العتبة عام 1900م
ميدان ابراهيم باشا في العتبة عام 1873
ميدان العتبة عام 1925 م
ميدان العتبة عام 1900
العتبة عام 1915
الموسكى عام 1930
حى الموسكى عام 1933 م
شارع العتبة عام 1910
ميدان العتبة 1910
العتبة عام 1979