سره الباتع .. قصة للكاتب الكبير يوسف إدريس، تحولت إلى مسلسل للمخرج خالد يوسف بعد مرور 65 عاما على صدورها ضمن مسلسلات رمضان 2023، وتزامنا مع عرض مسلسل سره الباتع، ينشر "اليوم السابع" قصة "سره الباتع" التى نشرت لأول مرة عام 1958 ضمن مجموعة قصصية بعنوان "حادثة شرف".
سره الباتع لـ يوسف إدريس.. الجزء الخامس
وعلى الرغم من غرابة المشكلة وضخامتها فإنى لأعجب لنفسى كيف كنت أحيانا أنساها؟! كنت إذا فكرت فيها فكرت فيها، وإذا نسيتها نسيتها، وإذا فكرت فيها آليْت على نفسى ألا أفكر فى غيرها ما حييت، وإذا نسيتها ذهبتْ عن بالى تماما وكأنى لم أعرفْها قط.
وأول الأمر كانتْ حين تخطر لى ولا أجد لها جوابا شافيا كنت أختنق بالضيق وأحس أنى أريد أن أقتل نفسي، ففى تلك السن لا نحتمل أبدا أن يبقى السؤال إذا عن لنا بلا جواب، ولكن الضيق إذا زاد عن حده ينقلب إلى ضده، وكان ضيقى قد زاد عن حده، حتى بدأت أنا الآخر أفضل طريقة أهل بلدنا، وأكاد آخذ السلطان حامد كالقضية المسلم بها، ولا أهتم بها أو بقضيته إلا كما يهتم أهل بلدنا بها، ولا يكاد يخطر لى إلا إذا مررت على الجبانة مثلا، ولمحت مقامه رماديا وحيدا بعيدا، أو إذا وقع فى يدى قرش مكتوب عليه: «ضرب فى عهد السلطان حسين»، أو كان أحيانا يخطر لى فجأة وبلا سبب، وكأن عقولنا تجتر أحيانا ما تختزنه فتعيده إلى وعْينا فى ساعات لنكمل فحْصه وطحْنه.
ولكنْ ذات يوم عثرت على شيء مذْهل غريب زاد المشكلة تعقيدا، فقد كان لنا نحن تلامذة بلدنا فريق محترم لكرة القدم، فريق أول وفريق ثان، ولم أكن فى كليهما، كنت شغوفا باللعبة، ولكنى كنت أفضل التفرج ومراقبة اللاعبين، ولهذا كنت أرافق فريقنا إذا ذهب ليبارى فريق بلدة أخرى، وكانتْ مباريات رسمية حقيقية، نرسل «باصه» مكتوبة وموقعا عليها من رئيس الفريق ومدربه، ويأتى الرد مكتوبا أيضا وفيه تحديد اليوم والساعة والمكان، وفى اليوم المحدد (غالبا صباح الجمعة) يخطط الملعب ويشترى اليوسفاندى والبرتقال للهافتيم، وترسل الأحذية القديمة منذ الصباح الباكر إلى الجزمجى ليصْلحها، وتنفخ الكرة عند العجلاتى بقرش وتطْلى بحبة طماطم لكى تبدو جديدة، ونستعد للمباراة.
وفى يوم الجمعة ذاك كنا قد ذهبنا لنلاعب بلدة بينها وبين بلدنا مشوار، وكالعادة كان المكان الذى اختاره فريقها للعب قريبا من الجبانة، فنادرا ما تجد فى قرانا مكانا فسيحا مستويا يصلح للعب إلا ذلك المكان الذى يقع على حافة الجبانة والذى يستعمل كجرن فى أيام الدراس.
وشات أحد لعيبتهم الكرة شوتة «بوز» أرسلتْها عالية بعيدة تخطتْ نطاق الملعب والجبانة، واستقرتْ فوق بناية حجرية صغيرة كانتْ قريبة من المزارع، وفوجئْت بأحد أفراد فريقهم يشتم اللعيب الذى شات وهو يقول: «دلوقتى مين ح يجيبها من فوق السلطان حامد؟!»
وتركت تتبعى للمباراة نهائيا، وما كاد يأتى الهافتيم حتى ذهبت أسأل أفراد الفريق الذى كنا نلاعبه، ومن كلماتهم المقتضبة اللاهثة عرفت أن بلدهم فيها سلطان حامد آخر، له مقام يشْبه إلى حد كبير مقام السلطان حامد فى بلدنا، وله أيضا نافذة يسيل منها شمع أبيض متجمد ويصنع أنهارا وبحورا فى الأرض، وهو الآخر تنذر له النذور، ويستعان بيده وتخفض من أجْله الأسعار، وسرعان ما اكتشفت خلال مباريات أخرى وأسئلة واستقصاءات بلا مباريات أن هناك سلاطين آخرين، يكاد يكون لكل قرية فى إقليمنا سلطانها الخاص.
وكان هذا أكثر من أن أستطيع أن أفكر فيه أنا وكل بلدنا مجتمعة.
وما قابلت إنسانا سواء كان من بلدنا أو من غيرها إلا وسألته، والشيء الذى كان يفْقدنى عقلى أنهم جميعا كانوا يأخذون الأمر بهدوء وبساطة ويستطيعون النوم بعد أسئلتي، بل ويتناولون الطعام ويضحكون، وكأن من الطبيعى أن يوجد لكل قرية سلطان، له اسم واحد هو حامد، سلطان خاص بمقام خاص، سلطان لا يعرف أحد كيف دفن، ولا من بنى له المقام، سلطان شيطانى استيْقظوا ذات صباح فوجدوا مقامه منتصبا عند حافة جبانتهم، ووجدوا مكانته سامقة فى أذهانهم.
كل ما ظفرت به كان إجابات غامضة تزيد من ثورتى وعجزى وهياجي، فمن قائل: إن هذا حدث من قديم الزمان ولا أحد يعرف سره، ومن قائل: إنه سلطان يمت بصلة القرْبى إلى أبى زيد الهلالى سلامة، ومن قائل: إنه سلطان واحد حقيقي، ولكنه كتب فى وصيته أن تصْنع له مدافن فى بلاد عدة يدْفن فى واحد منها فلا يستطيع أعداؤه أن يعْثروا أبدا على جثته.
ومن قائل: إن السبب فى هذه اللخبطة كلها هى الحكومة وهى وحدها المسئولة.
من أى ملة هو ومن أى دين؟
الله وحده يعلم.
لماذا تحبونه وتقدسونه وتنذرون له النذور إذن؟
من يدرى ربما كان ذلك لحكمة تخْفى على البشر.
ونحل جسدي، وبدأتْ ألوان كثيرة تتابع أمام عينى إذا وقفت، وأحيانا كنت أكلم نفسي، ونظرت فى المرآة يوما فكدت لا أعرف ملامحي.
وخفت ولعنت السلطان ولغْزه واليوم الذى قدمت له فيه النذر، خفت أن أموت، وأقسمت أن لا أعود أفكر فيه، جعلنى أبى أقسم أمامه عل صحتى تعود، ولم تعدْ إلى الصحة؛ إذْ لم أستطع أن أمنع نفسى من التفكير، حتى ولا بعد أن أخذنى أبى إلى الحكيم، وقال لى الرجل السمين الطيب وهو يمْسك يدى الناحلة بكفه الطرية التخينة الدافئة: «مالك يا بني؟»
وخفت أن يعتبرنى مجنونا إنْ أنا قلت له، ويرْسلنى إلى السراية الصفراء، فقلت: «ما فيش»، وفحصنى فلم يجدْ شيئا، ولكنى انتهزت فرصة خروج أبي، وخفت أن أجن إن أنا لم أقلْ له، فترددت وأنا أسأله إن كان يعْرف حلا لهذا اللغز، وسألنى ما هو ذلك اللغز؟ وقلت له كل شيء، وختمت كلامى بأن ما أمْرضنى هو أنى لم أجدْ حلا ولا تفسيرا.
وأطرق الرجل بوجْهه السمين حتى تفرطح لغْد الدهْن المتهدل من عنقه ثم رفع رأسه، ولم ألْمحْ فى وجهه استخفافا ولا تكذيبا، كل ما حدث أنه رفع لى يده وقال بوجه طيب جاد: «دول إيه يا بني؟»
وحرك أصابعه، فقلت: «صوابعك.»
– «كم صباع؟»
– «خمسة.»
– «أنت متأكد؟! عد تاني.»
ومع أنى كنت متأكدا تماما إلا أنى عددْتها فعلا ووجدتها حقيقة خمسة، فابتسم الرجل وقال: «طب أوجد لى حل اللغز ده؛ اشمعنى الواحد له فى كل يد خمس صوابع بس؟! ليه ما يكونوش ثلاثة؟! وليه ما يكونوش ستة؟! اشمعنى خمسة بس؟! جاوبني!»
ولم أستطع إجابته، وكان أبى قد حضر فشيعنا إلى الباب وهو يضع يده ذات الأصابع الخمسة على كتفى ويقول لي: «يا بني، فيه حاجات كتير فى الدنيا دى مالهاش تفسير، فاشمعنى نقيت حكاية السلطان حامد عشان تموت نفسك عشانها؟! علشان تلقى لها حل لازم تفكر وعشان تفكر لازم تكون عايش، وعشان تعيش لازم تاكل، كل!»
وظللْت آكل حتى أبطلت التفكير، وحتى نما جسدى وكبرت، وتركت مدارس ودخلت مدارس، ونسيت كل شيء عن حكاية السلطان كعادتنا حين ننسى إذا كبرنا كل ما أرق تفكيرنا ونحن صغار.