فى يوم 21 رمضان من عام 1995 كان الفنان الكبير عائدا لتوه من تصوير مسلسل «ساكن قصادى»، ليفطر فى بيته مع زوجته وحفيدته عبير، ابنة ابنته الراحلة أميمة، وجد ابنه حسين قد جاء ليزوره ويطمئن عليه وعلى والدته، وبينما يستعد الابن للمغادرة ألح عليه الأب أن ينتظر ليفطر معهم، وبالفعل استجاب الابن، وجلس الفنان الكبير ليتناول الإفطار الأخير، وبعده تلقى مكالمة تليفونية من أحد الصحفيين لإجراء حوار صحفى، وبينما يتحدث مع الصحفى دخلت عليه الحفيدة لتجده وقد سقطت سماعة التليفون من يده فأخذت تناديه: «جدو جدو»، لكنه لم يرد، حيث كان قد فارق الحياة بعد رحلة طويلة مع الفن أمتع خلالها الملايين وخلد اسمه فى سجلات المبدعين.
هكذا كان المشهد الأخير من حياة معلم السينما المصرية وأحد كبار مبدعيها، الفنان الكبير محمد رضا، الذى ظل حتى آخر يوم فى حياته يعمل ويبدع ليمتع جمهوره.
فى بيت تطل منه صورته الباسمة، وكأن صاحبها يستقبل الزائرين ويحييهم بوجهه البشوش وابتسامته الصادقة، جلس ابنه أحمد، الذى يحمل جزءا كبيرا من ملامح والده وروحه الطيبة، يحتضن الجلباب والصديرى والكوفية التى كان يرتديها المعلم رضا فى بعض أدواره، وصندوق الشوارب الذى كان يستخدمه ليختار منه «الشنب» المناسب لشخصية «المعلم» التى جسدها فى العديد من أعماله فمنحته الخلود الفنى، ومنحها هو مزيدا من البقاء بعد أن كادت تنقرض، وهو ما توقعه الكاتب الساخر محمود السعدنى فى كتابه المضحكون، قائلا: «لن يظهر بعد محمد رضا ممثل آخر فى دور ابن البلد».
تنظر إلى متعلقات الفنان محمد رضا، أشهر معلم فى السينما والمسرح، فتشعر وكأنك تسمعه وهو يتحدث إلى «الخوجة» فى فيلم «المدير الفنى»: «بذمتك انت خوجة انت.. بقى الأرض اللى احنا واقفين عليها بتلف حول نفسها، يعنى افتح محل السمك بتاعى فى السبتية الصبح ألاقيه فى مصر عتيقة».
لا تكف عن الضحك وأنت تتذكر كلمات وإيفيهات جنجل أبوشفطورة حرامى الغسيل «اللى بيقص الكلا» فى فيلم 30 يوم فى السجن، وهو يتحدث بطريقته التى يحفظها ويقلدها الجميع، حين يقول لفريد شوقى: «يييه إيدك حاجة وردينارى خالص، أنا كنت فاكرك تنفع فى كوبانية الصوابع الذهبية «جوندن فنج»، وعندما يدخل إلى «الأفندى المباحث المجتماعى».
تتذكر المعلم كرشة فى زقاق المدق، وعماشة فى الأدغال، وحنفى الونش، ورضا بوند، وأدواره فى عشرات المسرحيات والمسلسلات التليفزيونية والإذاعية، وعبارته الشهيرة التى حفظها ورددها الجميع، وساهمت فى نجاح الحملة القومية للقضاء على البلهارسيا: «طول ما ندى ضهرنا للترعة عمر البلهارسيا فى جتتنا ما ترعى»، وغيرها مئات الأعمال حتى كان آخر أعماله مسلسل ساكن قصادى.
ولد الفنان الكبير محمد رضا فى 21 ديسمبر عام 1921 بقرية الحمرة محافظة أسيوط، ثم انتقل والده إلى السويس وتخرج رضا من دبلوم الهندسة التطبيقية العليا عام 1938 وقضى بالسويس فترة طويلة من حياته، وبعد تخرجه عمل فى شركة شل للبترول.
وكانت الميول الفنية للفنان محمد رضا قد ظهرت فى المرحلة الابتدائية، حيث كون فريق تمثيل بالمدرسة، وشجعه الناظر، كما كان والده منفتحا ويحب الشعر والإلقاء، ورغم أنه كان مستقرا فى وظيفته بشركة شل، فإن الرغبة الفنية تمكنت منه فغير مسار حياته، وفى أواخر الثلاثينيات نظمت مجلة «دنيا الفن» مسابقة لاختيار وجوه جديدة، فتقدم لها وبعد التصفيات حصل على المركز الثانى فى المسابقة، وبعدها سعى وراء حلم التمثيل.
كان محمد رضا فى شبابه وسيما رشيقا يحلم بأدوار الجان، ولكن عانده الحظ فى البداية، حتى بدأ يقوم بأدوار بسيطة فى بعض الأفلام والمسرحيات، إلى أن اختاره المخرج كمال ياسين ليقوم بدور المعلم كرشة فى مسرحية زقاق المدق، ليتغير مسار الفنان الكبير وبدلا من أن يصبح أحد جانات السينما أصبح أشهر معلم فى السينما المصرية.
قدم محمد رضا العديد من الأفلام التى نجح خلالها، منها «جعلونى مجرما، بنات حواء، فتوات الحسينية، العتبة جزاز، باريس والحب، ثعالب وأرانب، اليتيم والحب، الصاغة»، بالإضافة للعديد من المسلسلات والمسرحيات التى حققت نجاحا وجماهيرية كبيرة.
محمد رضا
يحكى أحمد محمد رضا عن وفاة والده، قائلا: كان والدى بكامل صحته ولم يكن يعانى سوى من بعض الأمراض المزمنة التى تعايش معها، ويوم وفاته ذهب لأداء دوره فى مسلسل ساكن قصادى، وكان صائما، حيث كان التصوير فى نهار رمضان، وبعدما انتهى منه عاد إلى المنزل وكان أخى حسين يزوره، وبعد الإفطار اتصل به صحفى من إذاعة القناة لإجراء حوار، وأثناء الحديث لفظ أبى أنفاسه وسقطت سماعة التليفون من يده، وجاءت عبير لتناديه فلم يرد، ونادت على أخى حسين الذى فوجئ بوفاة أبى ورد على السماعة ليخبر الصحفى بأن والدى توفى، فأصيب الصحفى بحالة ذهول، وكان هذا فى 21 رمضان الموافق 21 فبراير 1995، وجئت من السفر لحضور جنازته، ووقتها تذكرت نظرته لى وأنا مسافر قبل رمضان بشهرين، حين أخبرته بأننى لن أعود إلا بعد 4 أشهر فابتسم قائلا: «هتيجى يا أحمد على العيد الصغير»، وعندما أكدت له أنه من الصعب عودتى بعد شهرين قال: «اسمع منى هتيجى»، وكأنه يشعر بأننى سأعود لأحضر جنازته، وكانت صدمة كبيرة لنا ولوالدتى التى توفت أيضا فى 27 رمضان عام 2008.
p