سره الباتع قصة للكاتب الكبير يوسف إدريس، تحولت إلى مسلسل للمخرج خالد يوسف بعد مرور 65 عامًا على صدورها ضمن مسلسلات رمضان 2023، وتزامنًا مع عرض مسلسل سره الباتع، ينشر "اليوم السابع" قصة "سره الباتع" التى نشرت لأول مرة عام 1958 ضمن مجموعة قصصية بعنوان "حادثة شرف".
سره الباتع لـ يوسف إدريس.. الجزء العاشر
وكانتْ إجابة الجنرال (يقصد نابليون) عليهم حاسمة، فقد أطلَقَ عليهم مدفعيته في الحال.
وطبعًا سقطوا يتخبَّطون ويصرخون ويلعنون نذالة «الفرنسيس» ويترحَّمون على زمن الشجاعة والإقدام.
وبعد معركة أو معركتين كنَّا قد انتهَيْنا منهم كما قلتُ لك.
أمَّا المصريون، فبعضهم يسكن القاهرة والمدن، ومعظمهم يزرعون الأرض ويسكنون قُرَى سوداء مبنية بالتراب في الأرياف واسمهم الفلاحون.
وآهٍ من هؤلاء الفلاحين يا جي!
إذا رأيتَهم عن قرب، ورأيتَ وجوهَهم التي تبتسم لك في طيبة وسذاجة، وأدركتَ خجَلَهم الفطريَّ من الغريب، ربما يدفَعُك هذا إلى الاستخفاف بهم وتعتقد أنَّك لو ضربتَ أحدهم على قفاه لما جَرُؤَ على أن يرفع لك وجهَه، ولتقبل الإهانة بكل سعادة وخشوع.
حذارِ أن تفعل شيئًا كهذا يا جي!
فقد حاوَلَ الجنرال وكليبر وبيلو ذلك وندموا.
لا أحد يستطيع أن يَسْبُر غَوْر هؤلاء الناس، تلك القبيلة ذات الملامح المتشابهة التي هبطتْ ذات زمان بعيد إلى وادي النيل، وآلَتْ على نفسِها ألَّا تتحرَّك من مكانها أو تتفتَّتَ، القبيلة التي تعلَّمَتْ أن تَحْنِيَ رأسَها لعاصِفة الغُزاة ثم تَمْضُغهم على مهل، القبيلة التي تسكن واديًا مفتَّحًا من كل الجهات تستطيع بأيِّ جيش صغير أن تغزوه، والمشكلة ليستْ في الغزو أبدًا، المشكلة ما يحدث بعد الغزو.
وأتحدَّى التاريخ أن يُثْبِتَ أنَّ غازيًا دخل هذه البلاد واستطاع أن يغادِرَها سالِمًا، لدَيْهم آلة عجيبة، هؤلاء الفلاحون، يستعملونها لطحن الحبوب، حجر كبير يدور فوق حجر كبير ويُوضَع الحب من فوق سليمًا ليَخرُج من بين الحجرين أنْعَمَ من الدقيق.
لقد وجدْنا الأتراك هنا قد أصبحوا دقيقًا من أزمنة طويلة مضتْ، وكان المماليك في طريقِهم إلى نفس المصير، لستُ أدْرِي أين تكمن قوَّتُهم، ولا كيف تتمُّ تلك العملية؟! ولكن المؤكَّد أنها تتم.
وقصة حامد، لا أقول: إنها توضِّح ما أريد، ولكنْ فسِّرْها إنْ كنتَ تستطيع، لقد جئتُ هذه البلاد عدُوًّا، ولن أخْدَعَ نفسي وأقول — مثلما يقولون كلهم هنا — إنني جئتُ لأحرِّر المصريين من المماليك، جئتُ عدوًّا يا صديقي، جئْنا كلُّنا عدوًّا قويًّا مسلَّحًا بأحدث ما وصلتْ إليه أوروبا من مخترعات وآلات دمار، جئْنا غُزاةً قادِرين، فإذا بنا اليوم في وَرْطة، وإذا بمشكلتنا هي كيف ننتزع أرجلَنا لننجوَ بأنفُسِنا مِن طمْي هذا البلد وأناسِه الذي نحسُّ بأنفسنا نغوص فيهم ونختفي.
ولا أزعم أني سأُحْسِن الحديث عنهم، فليس في استطاعتي أن أفعل شيئًا كهذا، سأحدِّثك فقط عن حامد؛ فمنذ شهور كثيرة وهو الموضوع المفضَّل للحديث بيننا حين نَمْلِك الحديث، ويكفي أن تعلم أنَّ القيادة قد أصدَرَتْ أمرًا غير مكتوب بمَنْع الحديث عنه.
وحامد هذا ليس زعيمًا من زُعَماء المصريين، بل إنَّه إلى شُهور قليلة لم يكن أحدٌ يهتمُّ بحامِدٍ هذا أو يُقِيم له وزنًا، فقد كان أحد فلاحي قرية شطانوف الواقِعة بين فرعَيِ النيل، وأظنُّك لا يمكن أن تعتقد أن اسم شطانوف هذا اسم فرنسي، ولكنَّه كذلك، فالقرية كان اسمها في الأصل كفر شندي وكان بجوارها قلعة قديمة من قلاع المماليك، وحين غزَوْنا الدلتا، وطرَدْنا المماليك، هدمنا القلعة القديمة وبنينا أخرى جديدة بخامات محلية وأسمَيْناها شاتو نيف (أي القلعة الجديدة)، وكذلك غيَّرْنا اسم البلد وسمَّيْناه باسم القلعة، ولا تحسبْنِي أسخَر حين أقول إن هذا كل ما صارت إليه رسالتنا تجاه بلاد أفريقيا المظلِمة، أن نغيِّر اسمًا باسم، ولكن الفلاحين غيَّروا فيما غيَّرْنا، بطريقتهم الخاصة، فأطلَقُوا على القرية اسم شطانوف بدلًا من شاتو نيف!