قال فضيلة الإمام الأكبر، الدكتور أحمد الطيب، شيخ الازهر الشريف، استكمالا لحديثه عن مشكلة «غلاء المهور»، مما تسبب فى انتشار ظاهرة العنوسة، وظاهرة الطبقية، اللتين حرص الإسلام منذ بواكيره الأولى على القضاء عليهما؛ أن هناك ظاهرة سلبية أخرى أثرت تأثيرًا سيئًا على شخصية المرأة والأسرة، وأربكت حياتها، وحياة أطفالها، هذه الظاهرة هى ظاهرة «فوضى الزواج الطلاق»، وكلاهما أثر من آثار فهم نصوص الشريعة فهمًا فيه من وحى العادات والتقاليد أضعاف ما فيه من وحى القرآن الكريم والسنة النبوية، لافتا أنه رغم امتلاك أمتنا من التعاليم التى تكفل رقى المرأة وقدرتها على تحمل مسؤولياتها التربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إلا أنها لازالت تراوح بين مد وجزر، وتقدم وتقهقر على طريق النهضة والإصلاح.
وأوضح شيخ الأزهر خلال حلقته السادسة عشر ببرنامجه "الإمام الطيب" أن سبب تقهقر رقى المرأة وقدرتها على تحمل مسؤولياتها التربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية يرجع – فيما يرى- إلى أمرين: الأول: أنه حدث فى مسيرة تشريعنا الفقهى ما يشبه السير فى اتجاه عكس اتجاه النصوص، وذلك حين طغى منطق العادات والتقاليد والعرف المتوارث، على «التشريعات» القرآنية والنبوية الواردة فى شأن إنصاف المرأة وتمكينها من حقوقها، حتى صارت التقاليد كأنها «الأصول»، وصارت النصوص كأنها فروع خادمة لهذه «الأصول»، وبعبارة أخرى: تحكمت العادات والتقاليد فى فهم النصوص، وكان المفروض أن يحدث العكس وتتحكم النصوص فى تهذيب العادات المتسلطة على حقوق المرأة، وقد نتج عن هذا الوضع المعكوس فقه صادر على المرأة بعضًا من حقوقها الشرعية، أو حال بينه وبينها، وكانت الثمرة المُرة لهذا الوضع أن أصبحت المرأة المسلمة التى حرر الإسلام عقلها منذ قرون عدة من قيود الجهل، وأطلق إرادتها من التبعية العمياء،و أصبحت مضرب الأمثال فى الضعف والاستكانة والانزواء بين الجدران، أما السبب الثانى فى تعقيد وضع المرأة المسلمة اليوم فهو، فى كلمة واحدة: اختلاط العادات والسياسات بالدين وإخضاعه لأهوائها وتقلباتها، وتحت هذه الكلمة غور بعيد من البحث والدرس، ليس فقط فيما يتعلق بأسباب التراجع فى مجال نهضة المرأة المسلمة وقدراتها الهائلة فى بناء مجتمعها، بل فيما يتعلق بأسباب الضعف العام فى جميع مجالات المجتمع العربى المعاصر.
وأضاف فضيلته، أن مع هذا الإرث المتراكم فقدت المرأة المسلمة كثيرا من ثوابت شخصيتها، وظلت فى حالة كر وفر بين فقه موروث يحتاج إلى تجديد، وفقه غربى طارئ على ثقافتها الضاربة فى جذور أعماقها الفكرية والنفسية؛ ولسنا فى حاجة لضرب العديد من الأمثال للتدليل على أن فقه التقاليد والموروثات من شأنه أن يحرم المرأة –باسم الشريعة- من حقوق كثيرة ما كان لها أن تنالها لولا هذه الشريعة السمحاء، ولكن أكتفى بالإشارة إلى بعض أمثلة لهذا الصراع بين صحيح الدين، من ناحية، وسيطرة العادات وما ينتج عنها من مآسٍ فى حياة المرأة المسلمة المعاصرة من ناحية ثانية.
وبين شيخ الأزهر أن من أمثلة الصراع بين فقه صحيح الدين وفقه العادات والتقاليد هذا الالتواء فى تفسير نصوص القرآن الكريم والسنة المشرفة التواء شوه صورة الأسرة المسلمة، وأدى إلى ما يمكن تسميته: «ظاهرة فوضى الزواج» و«فوضى الطلاق» أيضًا، وما نشأ عنهما من ضرر بالزوجات والأمهات فى حالات فوضى التعدد، ومن حرمان الكثير من الأطفال من حقوقهم فى عيش آمن وأسرة مستقرة، واستقطابهم فيما يعرف ب: «أطفال الشوارع» واستغلالهم فى جرائم الجنس والسرقة وترويج المخدرات، والمتاجرة بطفولتهم البريئة فى الإعلانات، وإجبارهم على أعمال لا يطيقونها ولا حيلة لهم فى الصبر عليها.
ولفت فضيلته أنه ليس من دعاة تحريم تعدد الزوجات، ولكنه من دعاة ضرورة الفصل الحاسم بين فهم نصوص القرآن الكريم وأحكام شريعته فى هذه «القضية»، فهمًا صحيحًا، مرتبطا بمقاصد هذه النصوص وغاياتها، وبين الفهم الملتوى المشوش لهذه المصادر المقدسة، والذى كان من أهم أسباب تعثر المجتمع المسلم، وكبواته المتكررة على طريق التنمية والتقدم، مضيفا أن نصوص القرآن -بكل يقين وتأكيد- لم تبح للمسلم أن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة إباحة مطلقة، بغير قيد أو شرط، وإنما أباحت له ذلك من أجل الضرورات، المشروطة بالعدل المطلق فى كل تصرف صغير أو كبير يصدر من الزوج تجاه زوجتيه أو زوجاته، وهو العدل فى الإنفاق وفى الطعام وفى الملبس والمسكن والمبيت؛ ولم يستثن الشرع من ذلك إلا ما يتعلق بدائرة المشاعر والأحاسيس القلبية، انطلاقًا من أن هذه المشاعر من طبيعتها أن تعلو على الإرادة الإنسانية، وتخرج عن سيطرة حرية الاختيار، وأنه ليس للزوج أو الزوجة من أمر المشاعر القلبية شيء، وليس فى يد أى منهما أن يتصرف فيها بتغيير أو تعديل، ومن هنا لم يتعلق بها تكليف شرعى بأمر أو نهى، ولو أن الله –تعالى!– جعل مسألة «الحب» من قبيل الأمور التى تخضع لتصرف العبد لأوجب على الزوج أن يعدل فى محبته بين الزوجات.
ويذاع برنامج «الإمام الطيب» يوميًا على القناة الأولى والفضائية المصرية وبعض القنوات العربية والأجنبية، بالإضافة إلى الصفحة الرسمية لفضيلة الإمام الأكبر على «فيسبوك» والصفحات الرسمية للأزهر الشريف على مواقع التواصل الاجتماعى.