صدمة وفاجعة كبيرة شعرت بها وشعر بها كل من يعرف الكاتب الصحفى الدكتور محمود بكرى عضو مجلس الشيوخ أو تعامل معه ولو لمرات قليلة، مرضه المفاجئ وتدهور صحته بشكل سريع حتى صدمة وفاته، هذا الصديق والأخ والسند الذى كان كتلة حيوية ونشاط لا يهدأ أبداً ولا يتراخى عن مساعدة أحد وخاصة البسطاء، ولا يترك مناسبة أو واجباً اجتماعياً إلا وتراه أول الحاضرين دائماً، تتعجب كيف يجد وقتاً لكل هذا رغم أعبائه ومسئولياته ومناصبه، ومنذ خبر مرضه ووفاته تنهال التعليقات والحكايات والمواقف التى يحكيها كل من تعامل معه عن إنسانيته وأخلاقه وجبره للخواطر ومحبته التى كان يحيط بها كل من حوله ومن يعرفه ومن يلجأ إليه.
رحل محمود بكرى بجسده لكن بقيت وستبقى سيرته الطيبة العطرة، وتلك الذكريات التى حفرها فى وجدان كل من تعامل معه، فحين يرحل الإنسان لا يتذكر الناس مناصبه ونجاحاته بقدر ما يتذكرون مواقفه الإنسانية ومودته ورحمته وأخلاقه، وهو ما حرص عليه محمود بكرى وكأنه يعلم أنه مهما طال العمر أو قصر فلن يعيش إلا بسيرته وإنسانيته، فكان يسابق الزمن كى يبنى هذه السيرة العطرة، وهو ما نجح فيه بقوة ظهرت فى فيض الحزن الذى استقبل به الناس خبر وفاته وفى حكاياتهم وكلامهم عنه، وفى وداع المحبين له وفى جنازته الحاشدة.
جمعتنى عشرة طويلة وطيبة بالأخ العزيز الكاتب الصحفى مصطفى بكرى وشقيقه الراحل الدكتور محمود بكرى منذ ما يقرب من 30 عاماً بحكم العمل فى جريدة الأحرار ثم جريدة الأسبوع ولم تنقطع صلة المودة، بل زادت يوماً بعد يوم حتى بعد أن تركت العمل بجريدة الأسبوع وانتقلت للعمل باليوم السابع منذ أكثر من 12 عاما، فهكذا كان الشقيقان يحرصان على بقاء أواصر الود والمحبة مع كل من تعامل معهما حتى وإن انقطعت صلة العمل، يتعامل الشقيقان مع كل من يعمل معهما صغيراً كان أم كبيراً عاملاً أو موظفاً أو صحفياً كأسرة واحدة يتشارك أفرادها السراء والضراء، تميزا بالتواضع والبساطة والاحترام والتقدير للجميع وخاصة المرأة، يتعاملان دائماً بأخلاق أبناء القرية وشهامة أهل الصعيد، لا أذكر أن أى منهما كان ينادى أى زميلة يتعاملان معها إلا واسمها مسبوقاً بلقب "أستاذة"، حتى وإن كانت فى بداية مشوارها الصحفى، كنا دائما نراهما ككيان وشخص واحد يكملان بعضهما البعض وكأنهما توأم وروح واحدة وزعها الله فى جسدين، اقتسما كل شىء وعاشا معاً كل تجارب الحياة، منذ الطفولة مرورا بانتقلاهما من قريتهما المعنا بقنا إلى القاهرة.
خاضا حروباً ومرا بنجاحات وإخفاقات، لم يفرقهما حتى السجن فدخلاه معاً، وها هو يفرقهما الموت، لم يكن محمود بكرى مجرد أخ لشقيقه الأكبر مصطفى، كان ابناً وأخاً وسنداً وصديقاً ومستشاراً ومعيناً، تنطبق عليهما الآية الكريمة "سنشد عضدك بأخيك"، لذلك كان هول الصدمة والفاجعة عظيماً على الأخ العزيز مصطفى بكرى، الذى انهار وهو يرى توأمه ونصف روحه يتألم وتتدهور صحته، شعر بأنه يسقط من جبل مرتفع وهو يراه فاقداً للوعى ينازع الموت تحت أجهزة الرعاية المركزة، كان يتألم أكثر من شقيقه المريض ويبكى كطفل تائه وحيد، وحين صعدت روح محمود بكرى إلى بارئها تزلزل كيان مصطفى وشعر أنه فقد نص روحه، حاول التماسك خلال الجنازة لكن سرعان ما فشلت محاولاته حين رأى أخيه الذى كان دائماً إلى جواره يسانده ويشد أزره محمولاً على الأعناق جثة هامدة يحملها الأحباب إلى مثواه الأخير، حتى يوارى الثرى، أصر مصطفى الذى أنهكه الحزن على أن يحمل النعش بنفسه رغم حالة الإعياء التى ظهرت عليها، بكى كما لم يبك من قبل عاش أقسى وأصعب موقف يمكن أن يعيشه إنسان حتى انهار وسقط وأصيب فى رأسه وسالت الدماء من رأسه، وأغمى عليه، لكنه سرعان ما أفاق رغم ألمه كى يكون فى وداع أخيه ويلقى عليه النظرة الأخيرة ويواريه الثرى بيديه فى موقف إنسانى لا يمكن وصفه بالكلمات وأدعو الله أن يربط على قلبه ويمنحه الصبر بقدر البلاء والاختبار الصعب.
"ودود جابر للخواطر".. كانت هذه أهم صفات الراحل محمود بكرى، يحرص على تلبية كل دعوة توجه إليه دون النظر إلى منصب من وجه هذه الدعوة، تجده دائماً أول الحاضرين، يتساوى فى ذلك عنده صاحب المنصب و العامل البسيط، تراه فى أفخم الفنادق وفى أبسط الشوارع والحارات، يجامل العامل البسيط ويشهد على عقود زواج أبناء البسطاء ويساهم فى تجهيزهم وكأنه أب لهم جميعاً، يحرص على دوام العلاقات وأواصر المودة حتى مع من فرقته عنهم سبل العمل ومشاغل الحياة، يحظى باحترام وتقدير ومودة الجميع حتى من يختلفون معه فى الرأى والمواقف، حضر أفراح إخوتى وابنتى وكان أول الحاضرين فى عزاء أمى، رغم أننى كنت قد تركت العمل بالأسبوع، وامتد وده ومحبته إلى والدى الرجل الصعيدى السبعينى وكان أبى يقول عنه دائماً شيخ عرب وصاحب واجب، وكان محمود بكرى حريصا على السؤال عنه دائماً، وهكذا امتدت علاقته ليس فقط بمن يعملون معه بل إلى أقاربهم وأسرهم، كان بسيطاً متواضعاً يرد دائماً على هاتفه وكل ما يصله من رسائل، وإن حالت ظروف انشغاله كان يحرص على معاودة الاتصال بمن طلبه، لا يرد حاجة لإنسان قصده، يحرص دائماً على قضاء حوائج الناس، وهو ما دفعه منذ سنوات طويلة وقبل أن يصبح نائباً بمجلس الشيوخ إلى الانشغال بالعمل الخيرى، فأسس جمعية خيرية وكان يتابع بنفسه كل صغيرة وكبيرة وينشغل بكل طلب أو حاجة لفقير أو محتاج، وظل حتى آخر نفس فى حياته يتابع حالات البسطاء ويحرص على مساعدتهم حتى وهو على فراش مرضه الأخير، وفى هذا ستجد مئات الحكايات التى يرويها عن الناس بعد رحيله.
يمكنك أن تعرف إلى أى قدر كان هذا الرجل ودوداً خلوقاً محباً للناس حين ترى وتقرأ تلك الصور التى التقطت العام الماضى بمناسبة احتفال جريدة الأسبوع بمرور 25 عاما على تأسيسها، هذا الاحتفال الذى حرص فيه مصطفى ومحمود بكرى على دعوة كل من عمل بالجريدة منذ نشأتها حتى من تفرقت بهم سبل العمل وانتقلوا للعمل بأماكن أخرى، نظم محمود بكرى الاحتفال وتولى دعوة الجميع، لم ينس أحداً حتى من ترك العمل بمهنة الصحافة، استقبل الجميع بابتسامته التى لم تكن تفارقه وبكل المحبة والود كأنه أراد أن يجمعهم ليودعهم، التقط الصور معنا جميعاً ومع كل فرد من عائلة الأسبوع التى لم تعد مجرد جريدة بل امتد أبناؤها ليعملون فى المواقع والصحف المختلفة خارج وداخل مصر لكن ظلت دائما تجمعهم علاقات وأواصر أخوة وصداقة دائمة، فى هذه الصورة تجلت فلسفة محمود بكرى فى الحياة وهى: اختلف مع ما شئت ومن شئت ولكن احرص على الأخلاق والاحترام فى كل تعاملاتك، وأن المودة والمحبة والرحمة وليست المناصب هى ما يتبقى للإنسان فى الحياة، وأن ما يتركه من أثر هو ما يمنحه عمراً فوق عمره وأن السيرة أطول من العمر، وأن هناك من يموتون وهم على قيد الحياة ومن يحيون فى القلوب حتى وهم أموات تحت التراب.. رحم الله الأخ والصديق الخلوق الخدوم الودود محمود بكرى وربط على قلب أخيه وتوأم روحه مصطفى بكرى وكل أهله وأحبابه.