حين اختار محمد على باشا، أن يكون رفاعة الطهطاوى ضمن البعثة العلمية المسافرة إلى فرنسا عام 1826، حزنت أمه وتمنت لو ظل ابنها بوظيفته واعظا وإماما فى الجيش بعد أن أنفقت على تعليمه ثمن ما باعته مما كانت تملكه من حلى وعقار، واعتزلت الأم قومها وأضربت عن ممارسة الحياة العادية مدة غيابه فى باريس «1826 - 1831»، فأغلقت على نفسها الباب، وعندما عاد من باريس لم تصدق أنه هو، فأخذ يقنعها بشخصيته حتى فتحت له بابها غير مصدقة، حسبما ينقل الدكتور محمد عمارة فى كتابه «رفاعة الطهطاوى رائد الفكر الحديث»، عن على عزت فى دراسته «رفاعة فى أسرته».
عوض «الطهطاوى» أحزان أمه بإنجازاته العظيمة التى بدأت بعودته، واستمرت من عصر محمد على إلى وفاته فى 27 مايو، مثل هذا اليوم، 1873، وكانت بدايات حكم توفيق، وهى الإنجازات التى جعلته «أبو الفكر المصرى الحديث، ومؤسس نهضة مصر الثقافية الحديثة»، بتقدير الدكتور لويس عوض فى كتابه «تاريخ الفكرى المصرى الحديث».
كما يذكر الكاتب الروائى بهاء طاهر، فى كتابه «أبناء رفاعة» بأن مصر تدين له بأكبر فضل فى التغيير الثقافى الذى غير وجه الحياة فيها، فكان الذراع اليمنى لمحمد على فى سياسة التعليم العصرى، وهو الذى أنشأ المدرسة العليا للترجمة والإدارة التى صارت مدرسة الألسن فيما بعد، واشترك بنفسه فى ترجمة عدد كبير من الكتب والمراجع العلمية للمدارس العلمية الجدية «الطب والتمريض والمهند سخانة والإدارة»، كما كان رئيس التحرير لأول صحيفة مصرية تنشأ فى القرن التاسع عشر وهى الوقائع المصرية، وقبل ذلك ألف عددا من الكتب أثرت مجرى الفكر المصرى حتى يومنا هذا».
ولد رفاعة وقضى طفولته الأولى وصباه الأول فى طهطا حيث تلقى علومه الأولى، وفقا للويس عوض مضيفا: «تنقل غلاما بين منشأة النبدة (بجوار جرجا) ومدينة قنا وفرشوط، ثم انتقل إلى القاهرة عام 1817 بعد موت أبيه ليدرس فى الأزهر، وهو فى السادسة عشرة من عمره، وتلقى فى الأزهر علوم الدين واللغة والأدب، وتتلمذ على يد الشيخ الثائر حسن العطار، الذى كان من العلماء الذين تفتحوا للعلوم والفنون الحديثة أيام الحملة الفرنسية على مصر «1798-1801»، وكان يختلف إلى المجمع العلمى المصرى الذى أسسه بونابرت، ويستمع إلى ما يلقى فيه من محاضرات ويطلع فى مكتبته العامرة بالذخائر».
يضيف عوض: «درس رفاعة فى الأزهر حتى بلغ الحادية والعشرين من عمره ثم عمل فى الأزهر عامين، وفى 1824 عينه محمد على إماما بفرقة من فرق الجيش، ولما قرر إيفاد أول بعثة من الشباب إلى باريس عام 1826 لتلقى العلوم الحديثة من علوم طبيعية وتكنولوجية وعسكرية اختار رفاعة ليكون إمام هذه البعثة، وفى باريس عكف على دراسة الآداب والفنون، فبدأ بإتقان اللغة الفرنسية، وبها قرأ التاريخ والجغرافيا والأدب، ولما شاع أمر إقباله على الدرس والتحصيل ضمه محمد على إلى عضوية البعثة ليستغل درايته باللغات وليجعل منه مترجما»، ويذكر الأمير عمر طوسون فى كتابه «البعثات العلمية فى عهد محمد»، أنه باطلاعه على هذه البعثة فى دار المحفوظات المصرية بالقلعة، وجد اسم كل تلميذ وراتبه الشهرى، وكان الشيخ رفاعة رافع هو إمام هذه البعثة، وراتبه مائتان وخمسون قرشا شهريا.
عاد صاحب «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» إلى مصر عام 1831، ويذكر لويس عوض: «استقبله إبراهيم باشا وأكرم وفادته، وأقطعه 36 فدانا فى الخانكة، واستقبله محمد على كما يستقبل العالم الكريم»، وعينه محمد على مدرسا بمدرسة الطب بأبى زعبل، حيث كانت العلوم تدرس بالفرنسية، ثم نقله مترجما بمدرسة المدفعية، وأثناء عمله فيها ترجم مؤلفات فى الهندسة والجغرافيا لطلاب المدارس العسكرية، ثم انتقل إلى مدرسة الإدارة التى أسسها محمد على عام 1834 لتخريج أفواج من الموظفين، ثم مدرسة الألسن التى أنشئت باقتراح منه عام 1836 وعرفت فى بدايتها باسم «مدرسة الترجمة» وعين مديرا لها، إلى جانب تدريسه فيها للغات والإدارة والشريعة والقانون الفرنسى.
يذكر «عوض» أن عباس الأول أغلق مدرسة الألسن عام 1849 بعد 15 من عملها وشتت أساتذتها، ونفى رفاعة إلى الخرطوم ناظرا لمدرسة ابتدائية فيها، ونقل معه صديقه محمد بيومى أستاذ الرياضيات الذى لم يحتمل الصدمة فمات هناك، ورغم أحزان رفاعة إلا أنه ترجم رواية «وقائع تليماك» لفنيلون، ولما مات عباس وتولى سعيد باشا عام 1858 أعاده إلى مصر واسترد بعض مكانته الضائعة، لكن منذ عام 1860 ولثلاث سنوات ظل بلا وظيفة محددة، حتى أعاد الخديو إسماعيل فى عام 1863 إدارة الترجمة وعينه مديرا لها، وعضوا فى لجنة المدارس التى تشرف على تنظيم التعليم بمصر فكان خير معاون لعلى باشا مبارك الذى أنشأ مجلة «روضة المدارس» عام 1870 وجعله رئيسا لتحريرها حتى مات فى 1873.