أصبحت القاهرة فى قبضة طاهر باشا، قائد الجنود الألبانيين «الأرناؤود» بفرار «خسرو باشا» أول وال عثمانى على مصر بعد جلاء الحملة الفرنسية عام 1801، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى الجزء الأول من موسوعته «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر».
يذكر «الجبرتى» فى موسوعته «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»، أن «خسرو» فى فترة حكمه كان «سيئ التدبير، لا يحسن التصرف، يميل إلى سفك الدماء ولا يضع شيئا فى محله»، ووفقا للرافعى، فإن حوادث تمرد الجند بسبب تأخر رواتبهم تكررت حتى صارت القاهرة فى فتنة مستمرة، وكان محمد على وطاهر باشا يقفان وراء تدبيرها للتخلص من خسرو، وفى 29 إبريل 1803 وقعت فتنة من هذا النوع حيث حاصر الجنود المتمردون منزل الدفتردار - مدير الشؤون المالية - وأمر خسرو بضربهم بالمدافع من القلعة، فساد الذعر فى المدينة، وأغلق التجار حوانيتهم، وجاء إليه طاهر باشا يتظاهر بالوساطة بينه وبين الجند، فرفض خسرو مقابلته، وأمره أن يلزم داره، وفى 30 إبريل تمكن طاهر وجنوده من الاستيلاء على القلعة، وأخذوا يضربون قصر خسرو بالمدافع.
فر خسرو هو وعائلته وبقية من جنوده من القاهرة فى مساء 1 مايو 1803، وقصد إلى قليوب فالمنصورة فدمياط واستقر بها، ويذكر الرافعى، أنه كان من غريب أمره وهو فى فراره قيامه بفرض الضرائب على البلاد التى يمر بها، ويأخذ من الأموال ما استطاع نهبه، وفرض على أهل المنصورة تسعين ألف ريال، ويؤكد: «بفرار خسرو انتهت ولايته الفعلية، فكانت مدتها سنة وثلاثة أشهر وواحد وعشرين يوما».
صار منصب الولاية على مصر شاغرا بفرار خسرو، فطلب طاهر باشا إلى المشايخ وكبار العلماء أن يختاروا من يشغل هذا المنصب، ويذكر الرافعى: «اجتمع المشايخ يوم الجمعة 6 مايو، مثل هذا اليوم، 1803 فى بيت القاضى - دار المحكمة - وذهبوا صحبة إلى بيت طاهر باشا وأعلنوه باختياره «قائمقام» إلى أن تحضر له الولاية أو يعين وال آخر، وطلبوا منه رفع المظالم التى كان الناس يشكون منها، وعرضوا عليه رسالة من البكوات المماليك فى الوجه القبلى أرسلوها قبل حدوث الفتنة العسكرية التى انتهت بخلع خسرو باشا يعرضون فيها الصلح والكف عن القتال، ويطلبون من المشايخ أن يتوسطوا لهم فى الصلح، فانتهز طاهر باشا هذه الفرصة ليجتذب إليه المماليك، وكتب إليهم جوابا يدعوهم إلى الحضور والاقتراب من القاهرة».
يرى الرافعى، أنه بهذا التعيين ظهرت للمشايخ سلطة رسمية، وإن كانت فى الواقع اسمية، لأن طاهر باشا وصل إلى القائمقامية بحد السيف، لكن مجرد استشعاره بضرورة اتفاق العلماء على اختياره هو تسليم منه بأن لهم شأنا فى حل الأزمات، كما أن تدخلهم فى الوساطة بين البكوات المماليك والوالى أكسبهم نفوذا على الفريقين، ومساعيهم فى رفع المظالم أعلت مكانتهم وزادت التفاف الناس حولهم.
لم يصدق «طاهر باشا» فى وعوده التى أعطاها للمشايخ، واشتهر بالظلم والجبروت، وفقا لتأكيد الرافعى الذى يعطى أمثلة كثيرة على ظلمه، كقيامه فور توليه بالقبض على جماعة من كبار الموظفين والأعيان بحجة أنهم من أنصار خسرو، منهم أحمد المحروقى كبير التجار، ورئيس الانكشارية، وكاتب خزانة خسرو، وسجنهم فى القلعة، كما أمر بقتل المعلم ملطى، وهو من كبار الكتبة الأقباط، وكان متوليا القضاء فى زمن الفرنسيين، وأمر كذلك بقتل المعلم حنا الصبحانى، أحد التجار السوريين لطمعه فى أموالهما، وأمر أيضا بقتل اثنين من كبار الوجاقيلة - الجهادية.
يضيف الرافعى، أن طاهر باشا أطلق لجنوده الألبانيين عنان السلب والنهب وضرب الغرامات الفادحة على التجار، ورفض الاستجابة لمطالب الجنود الانكشارية بصرف رواتبهم المتأخرة فحنقوا عليه، وزاد من سخطهم أن الأرناؤود أذلوهم فى عهده، وكانوا يعتبرون انتصارهم على خسرو باشا فوزا على الانكشارية أجمعين، فشمخوا بأنوفهم وجعلوا ينظرون إليهم بعين الاحتقار والزراية، فأوغر كل ذلك صدور الانكشارية وبيتوا فيما بينهم أن ينتقموا من الأرناؤود، وعزموا على الفتك بطاهر وتعيين أحد رؤسائهم بدلا منه.
أقدم جنود الانكشارية على تنفيذ انتقامهم يوم 26 مايو 1803، ويذكر الرافعى، أنه فى هذا اليوم ذهب عدد منهم نحو 250 بأسلحتهم إلى طاهر باشا وعلى رأسهم اثنان من أغواتهم - رؤسائهم - وهما موسى أغا وإسماعيل أغا، فدخلا عليه وكلماه فى الشكوى من تأخير دفع الرواتب، فانتهرهما، واشتد الجدال والخصام بينهم فجرده أحدهما سيفه وضرب طاهر باشا فقطع رأسه وألقياه من الشباك، وأحرقوا داره ونهبوها، وكانت مدة حكمه أياما معدودة، وقال الجبرتى: «لو طال عمره أكثر من ذلك لأهلك الحرث والنسل».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة