كانت ثورة 30 يونيو علامة فارقة في مسيرة مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليبدأ الشعب رحلة جديدة من التنمية والتقدم، والتي كانت إحدى خطاها بناء المدن الجديدة كمحطة رئيسة وبارزة في هذه الرحلة، بوصفها مبادرة جريئة اتخذتها الحكومة؛ لمواجهة التحديات العمرانية والتكدس السكاني، ومحاولة توفير حياة أفضل للمواطنين، بما يحقق لهم فرصًا اقتصادية وتعليمية وثقافية متنوعة.
وعانت مصر من تحديات عديدة في مجال الكثافة السكانية والتوسع الحضري؛ فمنذ آلاف السنين ويعيش السكان –في ظل نمو سكاني متسارع- في أقل من 7% من مساحة مصر. وفي مواجهة هذه التحديات، أصبح بناء المدن الجديدة خيارًا استراتيجيًا مهمًا لتخفيف الضغط على المدن القائمة، وتوزيع السكان والموارد بشكل أكثر توازنًا. تتميز المدن الجديدة بتصاميم حضرية حديثة، وبنية تحتية متطورة ومخططة، تلبي احتياجات السكان وتعزز جودة الحياة.
ويحقق بناء المدن الجديدة استغلالًا أمثل للأراضي غير المستغلة بربوع الدولة، ويسهم أيضًا في توفير فرص عمل جديدة وتنمية اقتصادية مستدامة، وتعزيز الاستثمار وتحفيز النمو الاقتصادي. وبالإضافة إلى ذلك، تلعب المدن الجديدة دورًا مهمًا في تحسين جودة البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية؛ من خلال التصميم البيئي المستدام، واعتماد تكنولوجيا الطاقة المتجددة، وإدارة النفايات بشكل فعال بمدن الجيل الرابع التي بدأت تنتشر بأنحاء الجمهورية.
وطبقا لدراسة صادرة من المرصد المصري التابع للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية ، أصبحت الكثافة السكانية في ارتفاع مستمر؛ فقد ارتفعت من 6.6 نسمة/كم2 عام 1882 إلى 103.6 نسمة/كم2 في مارس 2023. وحال ارتفع عدد السكان إلى حوالي 120 مليون نسمة في 2030 من المتوقع أن تصل الكثافة إلى حوالي 119 نسمة/كم2.
إلا أن هذه لم تكن الأزمة؛ فالأزمة الحقيقية أن إجمالي السكان يعيشون على مساحة أقل من 7% من المساحة الاجمالية للدولة. فيبلغ إجمالي الكثافة السكانية المأهولة حوالي 1494 نسمة/كم2 بإجمالي الجمهورية عام 2021. ويتضح من الجدول أن هناك تباينًا كبيرًا في نسبة المساحة المأهولة مقارنة بالمساحة الكلية على مستوى المحافظات.
فتتراوح نسبة المساحة المأهولة أقل من 5% في محافظات السويس وأسوان والبحر الأحمر والوادي الجديد ومطروح، بينما تصل إلى 100% في محافظات الدقهلية والشرقية وكفر الشيخ والغربية والإسماعيلية، وتقترب من 100% في محافظات بورسعيد والقليوبية والمنوفية.
وتؤدي تلك التباينات في نسبة المساحة المأهولة بالمحافظات المختلفة إلى تباينات أكبر في الكثافة في المساحة المأهولة، والتي تقدر من خلال قسمة عدد السكان / المساحة المأهولة بالكيلومتر مربع.
وقد بلغت الكثافة في المساحة المأهولة في محافظة القاهرة مستوى قياسيًا على مستوى الجمهورية ومقارنة بأكثر المناطق كثافة في العالم، حيث بلغت الكثافة 52 ألف نسمة للكيلو متر المربع الواحد في العاصمة. وتأتي محافظة الجيزة في المركز الثاني لكن بفارق شاسع عن محافظة القاهرة، فبلغت الكثافة في المساحة المأهولة في محافظة الجيزة 7.4 آلاف نسمة في الكيلومتر المربع.
ويتباين التوزيع الجغرافي للسكان بالمحافظات تباينًا كبيرًا؛ إذ يتركز السكان في محافظات وادي النيل والدلتا وفي الحواضر الكبيرة وإقليم القاهرة الكبرى وندرة السكان في محافظات الحدود. فوفقًا لتعداد 2017، تمثل محافظات الوجهين البحري والقبلي مجتمعة أكثر من 80% من إجمالي سكان الجمهورية، بينما تمثل المحافظات الحضرية (القاهرة، والإسكندرية، والسويس، وبورسعيد) 17% من إجمالي السكان، في حين أن التمثيل النسبي لمحافظات الحدود (البحر الأحمر والوادي الجديد ومطروح وشمال سيناء وجنوب سيناء) لا يمثل سوى 1.7% من السكان، رغم مساحاتها الجغرافية الشاسعة.
لذا كان لا بد من حل جذري للأزمة، وإعادة رسم خريطة سكان مصر، واستيعاب الزيادة السكانية المستمرة والتكدس السكاني في الوادي؛ من خلال: القضاء على العشوائيات والمناطق غير الآمنة وغير المخططة، وتحسين جودة حياة المواطنين بالريف من خلال المشروع القومي لتنمية وتطوير القرى المصرية “حياة كريمة”، وبناء مدن جديدة لإعادة توزيع السكان بعيدًا عن الشريط الضيق لوادي النيل.
محاولات سابقة
خلال العقود الماضية، كانت هناك محاولات على استحياء لتفريغ القاهرة وسحب جزء من التكدس السكاني بالقاهرة الكبرى إلى أطراف المدينة بمدن مثل: الشروق، وبدر، و6 أكتوبر، والعبور، وغيرها من المدن الجديدة التي بُنيت خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. إلا أنها لم تنجح بالقدر الكافي في تقليل الكثافة السكانية بالمحافظات الحضرية، وخاصة إقليم القاهرة الكبرى بوصفه الأكثر جذبًا للسكان والهجرة الداخلية من مختلفة المحافظات على مدار السنوات.
فعلى سبيل المثال، كانت مساحة إقليم القاهرة الكبرى عام 1970 تقدر بحوالي 52 ألف فدان، وعدد السكان 5.6 ملايين نسمة، والكثافة الصافية تقدر بـ 250 نسمة/ فدان، فيما كانت الكثافة الإجمالية تقدر بـ 100 فرد/ فدان. فيما أصبحت المساحة في 2015 حوالي 140 ألف فدان بزيادة 240%، وبلغ إجمالي عدد السكان حوالي 16.8 مليون نسمة بزيادة 300%، فيما وصلت الكثافة السكانية الصافية لحوالي 500 نسمة/فدان وهي كثافة مرتفعة جدًا، وقدرت الكثافة الإجمالية بـ 140 نسمة/ فدان. هذا إلى جانب حجم الهجرة الداخلية التي تستوعب القاهرة النصيب الأكبر منها، فوفقًا لتعداد عام 2006 بلغ إجمالي المهاجرين إلى القاهرة 804.4 آلاف نسمة حوالي 16.8% من إجمالي الهجرة الداخلية.
وهو ما يؤكد على عدم قدرة المدن التي سبق بناؤها على حل المشكلة منذ الثمانينيات. وقد يرجع ذلك إلى عدم جاذبية هذه المدن لغالبية المواطنين في هذا التوقيت؛ ففي حينها كان السكن في هذه المدن بمثابة “نفي” لسكانها، فيتطلب الذهاب إلى وسط العاصمة قطع عشرات الكيلومترات وتكبد أموال باهظة، بخلاف تكبد عناء الطرق الوعرة في هذا الوقت، لذا كان تحمل هذا العناء بشكل شبه يومي لبعض العاملين والطلاب لإتمام شؤونهم العملية والدراسية أمرًا شبه مستحيل. فكان شراء وحدة سكنية بهذه المدن الجديدة مجرد استثمار عقاري إذ ربما يؤتي ثماره يومًا ما.
هذا إلى جانب عدم كفاية ما تم تنفيذه من وحدات سكنية لتضاهي الزيادة السكنية خلال العقود الأخيرة، فما تم تنفيذه خلال 38 عامًا (1976-2013) يعادل ما تم تنفيذه في 7 سنوات (منذ 2015 حتى 2021). فخلال الفترة (1976 – 2005) والتي تعادل 30 سنة تقريبًا تم تنفيذ 1.2 مليون وحدة سكنية، بمتوسط 42 ألف وحدة سكنية سنويًا. فيما زادت معدلات البناء قليلًا في الـ 8 أعوام التالية (2005-2013)، ليصبح إجمالي المنفذ 383 ألف وحدة بمتوسط 48 ألف وحدة سنويًا. في حين كانت الزيادة السكانية خلال الـ 38 عامًا تقدر بحوالي 48 مليون نسمة، أي بمتوسط زيادة 315.8 ألف أسرة سنويًا (بفرض أن متوسط حجم الأسرة 4 أفراد) في حين كان متوسط عدد الوحدات المنفذة لا يتعدى 45 ألف وحدة سنويًا.