انشغل الخديو عباس الثانى وحكومته بالاحتفالات بمرور مائة سنة على تأسيس محمد على باشا للدولة المصرية، غير أن رأى الإمام الأستاذ محمد عبده كان مضادا لإنجازات محمد على، وكتبه فى مقال بعنوان «آثار محمد على فى مصر» ونشره فى 7 يونيو، مثل هذا اليوم، 1902، بمجلة المنار لصاحبها الشيخ محمد رشيد رضا.
كان الإمام محمد عبده مفتيا للديار المصرية منذ 3 يونيو 1899، وظل فيه حتى توفى فى 11 يوليو 1905، ومع ذلك كتب مقاله الذى «يهدم فيه أسطورة أذاعها المنافقون عن مآثر محمد على وأفضاله على المصريين»، حسبما يذكر الدكتور عثمان أمين فى كتابه «رائد الفكر المصرى.. الإمام محمد عبده».
ويذكر محمد رشيد رضا فى مجلده الثانى «تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده»، أنه كتب مقالا نشره فى الجزء الرابع من المنار ينتقد جعل هذه الاحتفالات فى المساجد، فأرسل الخديو عباس الثانى هذا المقال مع بعض رجال حاشيته إلى الإمام الأستاذ، يشكو منه، وراجيا أن ينهى تلميذه عن العود إلى القدح فى جده، ويضيف «رضا»: «كان قد صدر الجزء الخامس من المنار الذى فيه مقال الأستاذ، فلما بلغه الرسول ما أمر به قال له الأستاذ: يظهر أن أفندينا لم يطلع على الجزء الخامس فإن فيه مقالة شرا من تلك المقالة التى يشكو منها».
يبلغ المقال الذى كتبه محمد عبده حوالى 2200 كلمة، يستهله باستعراض حال حكومة مصر قبل مجىء الحملة الفرنسية عام 1798، ثم خلال سنوات الحملة الثلاث، ثم تولى محمد على ولاية مصر الذى يقول عن فترة حكمه: «ما الذى صنع محمد على؟ لم يستطع أن يحيى ولكن استطاع أن يميت، كان معظم قوة الجيش معه، وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة، فأخذ يستعين بالجيش وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه، ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولا وأعانه على الخصم الزائل فيمحقه وهكذا حتى إذا سحقت الأحزاب القوية وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة، فلم يدع منها رأسا يستتر فيه ضمير «أنا»، واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلا لجمع السلاح من الأهلين، وتكرر ذلك منه مرارا حتى فسد بأس الأهالى وزالت ملكة الشجاعة منهم، وأجهز على ما بقى فى البلاد من حياة فى أنفس بعض أفرادها، فلم يبق فى البلاد رأسا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه أونفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه».
يضيف: «أخذ يرفع الأسافل ويعليهم فى البلاد والقرى كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه على أصله الكريم، حتى انحط الكرام وساد اللئام ولم يبق فى البلاد إلا آلات له يستعملها فى جباية الأموال، وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أى وجه فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطبيعية من رأى وعزيمة واستقلال نفس، ليصير البلاد المصرية جميعها إقطاعا واحدا له ولأولاده على أثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة.
ماذا صنع بعد ذلك؟ اشرأبت نفسه لأن يكون ملكا غير تابع للسلطان العثمانى، فجعل من العدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الأوروبيين، فأوسع لهم فى المجاملة وزاد لهم فى الامتياز خارجا عن حدود المعاهدات المنعقدة بينهم وبين الدولة العثمانية، صار كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكا من الملوك فى بلادنا يفعل ما يشاء ولا يسأل عما فعل، وصغرت نفوس الأهالى بين أيدى الأجانب بقوة الحاكم، وتمتع الأجنبى بحقوق الوطنى التى حرم منها وانقلب الوطنى غريبا فى داره، غير مطمئن فى قراره، فاجتمع على سكان البلاد المصرية ذلان: ذل ضربته الحكومة الاستبدادية المطلقة، وذل سامهم الأجنبى إياه ليصل إلى ما يريده منهم، غير واقف عند حد أو مردود إلى شريعة».
يضيف الأستاذ الإمام: «أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوروبا ليتعلموا فيها، فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا فى البلاد ما استفادوا؟ كلا ولكنه استعملهم آلات تصنع له ما يريد وليس لها إرادة فيما تصنع، حمل الأهالى على الزراعة ولكن ليأخذ الغلات، ولذلك كانوا يهربون من ملك الأطيان كما يهرب غيرهم من الهواء الأصفر، والموت الأحمر، وقوانين الحكومة لذلك العهد تشهد بذلك».
يواصل الأستاذ الإمام: «يقولون إنه أنشأ المعامل والمصانع، ولكن هل حبب إلى المصريين العمل والصنعة حتى يستبقوا تلك المعامل من أنفسهم؟ وهل أوجد أساتذة يحفظون علوم الصنعة وينشرونها فى البلاد؟ أين هى؟ ومن كانوا؟ وأين آثارهم؟ لا بل بغض إلى المصريين العمل والصنعة بتسخيرهم فى العمل والاستبداد بثمرته، فكانوا يتربصون يوما لا يعاقبون فيه على هجر المعمل والمصنع، لينصرفوا عنه ساخطين عليه، لاعنين الساعة التى جاءت بهم إليه».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة