تمر اليوم ذكرى رحيل الإمام محمد عبده (1849- 1905) وهو أشهر رجل دين مصري في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقد رصد عدد كبير من المفكرين والكتاب سيرته ومنهم عباس محمود العقاد في كتابه "عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده".. فماذا قال؟
محمد بن عبده بن حسن خير الله
نشأ الطفل "محمد عبده" في بيت من بيوت القرية المتوسطة، لا يُحسَب من أفقرها؛ لأن الفقير في القرية لا يقتني الخيل ولا يفرغ لرياضة الفروسية وما إليها، ولا يملك من موارد الكسب ما يعينه على فتح بيته للضيافة وإيواء الضيوف من علية الزائرين في نظر أبناء القرية.
ولا يُحسَب من أغناها؛ لأن القرية كان فيها مَن هو أغنى من أرباب ذلك البيت، ولم تكن من السمعة بحيث يتسع زمامها كما يقول أبناء الريف لبيوت كثيرة من أصحاب الثراء، وعِدَّة سكانها في أيام نشأة الطفل الصغير لم تَزِدْ على ألف نسمة عند نهاية القرن التاسع عشر، كما جاء في إحصاء سنة ١٨٩٧ ميلادية.
والمعلوم من شأن هذا البيت في تلك الفترة أن أبناءه كانوا يزرعون أرضهم بأيديهم، ويستأجرون معها أرضًا من ملك غيرهم يتعاونون على زرعها مع جيرانهم، ويكفل لهم ما عُرِف عنهم من الجد والاستقامة وصلابة العود أن يزيدوا موردهم بين عامٍ وآخَر في حدود طاقاتهم، فقد بلغ ما ملكوه من الأرض عند نشوب الثورة العرابية نحو أربعين فدانًا في خبرٍ رواه الدكتور عثمان أمين عن صحيفة إنجليزية، ولم نطَّلِع على مرجع آخَر يحدده بهذا المقدار، ولكنه لا يجاوز حده المعقول إذا نظرنا إلى الأسرة التي كان يعولها والد الطفل على حالة بعيدة من حالة الفاقة والاضطرار.
ونحن نعرف أفرادًا من تلك الأسرة قليلين ممَّن وردت أسماؤهم في تراجم الأستاذ الإمام في أثناء حياته وبعد مماته.
فمنهم جده حسن خير الله، وعمه بهنس حسن خير الله، وابن عمه إبراهيم، وأخواه من أبيه علي ومحروس، وأختاه شقيقتاه: زمزم ومريم، وأخوه من أمه مجاهد؛ لأن أباه تزوَّج من أمه وهي أيِّم تقيم مع أبيها عثمان الكبير بقرية حصة شبشير على مقربة من طنطا، وهؤلاء غير أفراد أسرته من أخوال أبيه أو أخوال في غير المحلة، وكلهم من رجال الأسرة عملوا في الزراعة ولم يُعرَف لهم عمل من أعمال كسب المعيشة في غيرها.
ويتقاضانا البحث عن كل ما له دلالة خاصة من شأن هذه الأسرة أن نلتفت إلى «سبرها» أو عادتها في التسمية، فإنها تختار الأسماء لمعانيها ومناسباتها، فإذا اختارت اسمًا من غير أسماء الأنبياء وأعلام الصحابة، لم يكن هذا الاختيار جزافًا لغير معنى مقصود، فمن أسمائهم محمد وإبراهيم وعلي وحسن وعثمان وحمودة، ومنها بهنس ودرويش ومجاهد ومحروس. ومعنى بهنس أنه يمشي مشية الأسد أو مشية الفارس المتبهنس، وهو اسم ينُمُّ على عراقة في حب الفروسية بين أجيال هذه الأسرة، ودرويش لم تكن من الأسماء التي تُطلَق على المولودين حيثما اتفق؛ لأن صاحبه كان من أهل التصوف، وكانت له رحلات إلى شيوخ الطريق في المغرب كرحلات السياح المتنسِّكين، وقد سمَّاه به والد اسمه «خضر»، وهو اسم الإمام الذي نعلم من القرآن أنه كان يجوب الآفاق ويعلِّم موسى عليه السلام معرفة أهل الباطن وأسرار الشريعة الخفية … واسم محروس غير عجيب أن يكون مقصودًا بمعناه من حراسة الله في بيت مرزأ مضطهد، قد ابتلي العشرات من أبنائه بالنفي والسجن والمصادرة، وقضى منهم مَن قضى بالطاعون، ومَن بقي بعده لم يَزَلْ بين خصومه الألداء عرضة للوشاية والخراب. واسم مجاهد ظاهر الدلالة على حب العمل في سبيل الله. وتظهر العاطفة الدينية في تسمية البنات باسم زمزم ومريم؛ فإنها تسمية أناس مشتغلين بأمر الدين. واسم عبده مضافًا إلى الضمير الذي ينوب عن جميع الأسماء الحسنى، معناه أن المتسمى به «عبده» هو سبحانه وتعالى وليس بعبد أحد من خلقه، وقد يُطلَق هذا الاسم بغير نظير إلى هذا المعنى، ولكنه إذا أُطلِق على المولود في زمن يسام فيه أهله الذل والعنت، ويرفعون فيه الرأس بالتحدي والمناجزة، فليس هو من الأسماء التي تُطلَق جزافًا ولا تُراد لمعنى. وكذلك اسم خير الله كبير الأسرة، إنه خير الخالق وليس بخير أحد سواه. وأصغر أبناء الأسرة «حمودة» هو اسم محمد للتحبيب، سُمِّي به لأن له أخًا أكبر منه يُسمَّى محمدًا، ويُنادي أخوه الأصغر باسم حمودة كأنه يُنادى باسم محمد الصغير.
ونحن نلتفت إلى هذه العادة في التسمية ونرجح القصد فيها؛ لأنها مناسبة لحالة الأسرة غير منقطعة عن معانيها كما تنقطع معاني الأسماء في كثير من الأُسَر التي تجري في اختيار الأسماء لأبنائها وبناتها مجرى التقليد، الذي تتساوى فيه ظروفها وظروف غيرها. فإذا صح ما ذهبنا إليه، فهو آية أخرى من آيات الاستقلال بالرأي في هذا البيت، وعادة من عادات أناس يريدون لأنفسهم ولا يراد لهم فيما يعنيهم من شئون الآباء والأبناء.
واسم صاحب الترجمة «محمد» هو الاسم الذي يُقترَن باسم أبيه، فيساوق لفظ التحية الإسلامية كلما ذُكِر النبي «محمد عبده» ورسوله.
فمحمد عبده اسم للوليد وذكرى محبوبة لنبي الإسلام عليه السلام، وأغلب الظن أن «محمدًا» نذر من يوم مولده لطلب العلم؛ لأنه وُلِد بجوار مدينة طنطا في أواخر سنة ١٢٦٥ هجرية أو أوائل السنة التي تليها، وهو موعد من السنة يُحتفَل فيه بإحياء ليلة جامعة يشهدها المريدون من أنحاء الأقاليم، وتُتلَى فيها سور القرآن الكريم يرتلها أشهر القراء بالمسجد الأحمدي، وهو مشهور منذ بنائه بعلوم القرآن حفظًا وتجويدًا وتفسيرًا، وله في كل ليلة من ليالي الأسبوع مقرأة باسم أحد المحسنين من أصحاب الوقوف عليه، ومن عادة قرائه الكبار أن يجلسوا بعد صلاة الجمعة، أو بين العشاءين، كل ليلة من ليالي المقارئ لاستماع سور القرآن من المبتدئين بحفظه وتجويد تلاوته، وهم الذين يخلفون كبار القراء بعد إتمام الحفظ وإحكام التلاوة والإلمام بما يتيسر لهم في سنهم من تفسير آيات الفرائض والعبادات.
فإذا كان الوالد المغترب قد شهد بالمسجد ليلة الختام وشهد معها تسابق الفتية الصغار إلى تجويد القراءة والاستعداد لطلب العلم بمعهده الذي كان يُسمى بالأزهر الصغير، أو الأزهر الثاني، فليس أقرب إلى الذهن من أن يخطر له أن ينذر وليده في هذا الجوار لمثل هذه الكرامة، وهو على ما طُبِع عليه من التدين والتطلُّع إلى عظائم الأمور، ولم يكن لابن القرية يومئذٍ من مستقبل أعظم من مستقبل العالِم الذي يقود الأمة في شئون الدين والدنيا، ويحاسب ولاة الأمر على ظلم أهل القرى، وهو في اغترابه لا ينسى ذلك الظلم ولا يتمنَّى لولده مقامًا أكبر من مقام ذلك الحسيب المهيب.
•••
لذلك بقي الطفل الصغير بعد عودة أبيه إلى «محلة نصر» معفي من تكاليف العمل في الحقل مع أخويه وذوي قرباه، وتعلم الكتابة والقراءة في منزل والده، ثم وُكِّل إلى حافظ معتقد لتحفيظه القرآن، ثم أُرسِل في سِنِّ طلب العلم إلى طنطا لتلقِّي علومه؛ تمهيدًا للترقي منه إلى الجامعة الأزهرية، ولم يقبل منه أبوه عذرًا للتخلف عن المسجد بعد تزويجه المبكر في نحو السادسة عشرة، ولعله حسب أن إحجامه عن متابعة الدرس كان عرضًا من أعراض سن المراهقة، وأنه مع ذكائه الذي ظهر منه في تعلُّم الكتابة وحفظه للقرآن في نحو سنتين خليق أن يعدل عن المعاندة في طلب العلم الذي نذره له منذ ولادته، وتفصيل ما بعد ذلك من مراحل تعليمه مبسوط في سيرته التي كتبها، ننقله بنصه ولا نرى لنا مرجعًا أولى بالاعتماد عليه وأوفى منه في بابه مما كتبه بعنوان «نشأتي وتربيتي» من تلك السيرة التي نُشِرت بعد وفاته، قال رضوان الله عليه:
تعلمت القراءة والكتابة في منزل والدي، ثم انتقلت إلى دار حافظ قرآن قرأت عليه وحدي جميع القرآن أول مرة، ثم أعدت القراءة حتى أتممت حفظه جميعه في مدة سنتين، أدركني في ثانيتهما صبيان من أهل القرية جاءوا من مكتب آخَر ليقرءوا القرآن عند هذا الحافظ، ظنًّا منهم أن نجاحي في حفظ القرآن كان من أثر اهتمام الحافظ. بعد ذلك حملني والدي إلى طنطا — حيث كان أخي لأبي الشيخ مجاهد رحمه الله — لأُجَوِّد القرآن في المسجد الأحمدي لشهرة قرائه بفنون التجويد، وكان ذلك في سنة ١٢٧٩ هجرية.
وفي سنة مائتين وإحدى وثمانين هجرية جلست في دروس العلم، وبدأت بتلقِّي شرح الكفراوي على الآجرومية في مسجد الأحمدي بطنطا، وقضيت سنة ونصفًا لا أفهم شيئًا لرداءة طريقة التعليم، فإن المدرسين كانوا يفاجئوننا باصطلاحات نحوية أو فقهية لا نفهمها، ولا عناية لهم بتفهيم معانيها لمَن لم يعرفها، فأدركني اليأس من النجاح وهربت من الدروس، واختفيت عند أخوالي مدة ثلاثة أشهر، ثم عثر عليَّ أخي فأخذني إلى المسجد الأحمدي، وأراد إكراهي على طلب العلم، ولم يَبْقَ عليَّ إلا أن أعود إلى بلدي وأشتغل بملاحظة الزراعة كما يشتغل الكثير من أقاربي، وانتهى الجدال بتغلبي عليه، فأخذت ما كان لي من ثياب ومتاع، ورجعت إلى «محلة نصر» على نية ألَّا أعود إلى طلب العلم، وتزوجت في سنة ١٢٨٢ على هذه النية.
فهذا أول أثر وجدت في نفسي من طريقة التعليم في طنطا، وهي بعينها طريقته في الأزهر … وهو الأثر الذي يجده خمسة وتسعون في المائة ممَّن لا يساعدهم القدر بصحبة مَن لا يلتزمون هذه السبيل في التعليم … وسبيل إلقاء المعلم ما يعرفه أو ما لا يعرفه بدون أن يراعي المتعلم ودرجة استعداده للفهم، غير أن الأغلب من الطلبة الذين لا يفهمون تغشهم أنفسهم فيظنون أنهم فهموا شيئًا، فيستمرون على الطلب إلى أن يبلغوا سن الرجال، وهم في أحلام الأطفال، ثم يُبتلَى بهم الناس وتُصاب بهم العامة، فتعظم بهم الرزية؛ لأنهم يزيدون الجاهل جهالة، ويضلِّلون مَن توجد عنده داعية الاسترشاد، ويؤذون بدعاويهم مَن يكون على شيء من العلم، ويَحُولون بينه وبين نفع الناس بعلمه.
عودة إلى طلب العلم
بعد أن تزوجت بأربعين يومًا، جاءني والدي صحوة نهار وألزمني بالذهاب إلى طنطا لطلب العلم… وبعد احتجاج وتمنع إباء، لم أجد مندوحة عن إطاعة الأمر، ووجدت فرسًا أحضره فركبته وأصحبني والدي بأحد أقاربي … وكان قوي البنية شديد البأس، ليشيعني إلى محطة «إيتاي البارود» التي أركب منها قطار السكة الحديد إلى طنطا.
كان اليوم شديد الحر، والريح عاصفة ملتهبة تحصب الوجه، يشبه الرمضاء … فلم أستطع الاستمرار في السير، فقلت لصاحبي: أما مداومة المسير فلا طاقة لي بها مع هذه الحرارة، ولا بد من التعريج على قرية أنتظر فيها حتى يخف الحر … فأبى عليَّ ذلك فتركته، وأجريت الفرس هاربًا من مشادته، وقلت إني ذاهب إلى (كنيسة أورين) بلدة غالب سكانها من خُئولة أبي، وقد فرح بي شبَّان القرية؛ لأنني كنت معروفًا بالفروسية واللعب بالسلاح، وأملوا أن أقيم معهم مدة يلهو فيها كلٌّ منا بصاحبه … أدركني صاحبي وبقي معي إلى العصر، وأرادني على السفر، فقلت له خذ الفرس وارجع وسأذهب صباح الغد، وإن شئت قلت لوالدي إنني سافرت إلى طنطا … فانصرف وأخبر ما أخبر، وبقيت في هذه القرية خمسة عشر يومًا تحولت فيها حالتي، وبدلت فيها رغبة غير رغبتي.
مع الشيخ درويش
ذلك أن أحد أخوال أبي، واسمه الشيخ درويش سبقت له أسفاره إلى صحراء ليبيا … ووصل في أسفاره إلى طرابلس الغرب، وجلس إلى السيد محمد المدني والد الشيخ الظافر المشهور الذي كان قد سكن الآستانة وتوفي بها، وعلم عنده شيئًا من العلم وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وكان يحفظ «الموطأ» وبعض كتب الحديث، ويجيد حفظ القرآن وفهمه، ثم رجع من أسفاره إلى قريته هذه، واشتغل بما يشتغل به الناس من فلاحة الأرض وكسب الرزق بالزراعة.
جاءني هذا الشيخ صبيحة الليلة التي بتها في الكنيسة، وبيده كتاب يحتوي على رسالة كتبها محمد المدني إلى بعض مريديه بالأطراف بخط مغربي دقيق، وسألني أن أقرأ له فيها شيئًا لضعف بصره … فدفعت طلبه بشدة ولعنت القراءة ومَن يشتغل بها، ونفرت منه أشد النفور، ولما وضع الكتاب بين يدي رميته إلى بعيد، ولكن الشيخ تبسَّم وتجلى في ألطف مظاهر الحلم، ولم يَزَلْ بي حتى أخذت الكتاب وقرأت منه بضعة أسطر، فاندفع يفسر لي معاني ما قرأت، ثم بعبارة واضحة تغالب إعراضي فتغلبه وتسبق إلى نفسي. وبعد قليل جاء الشبان يدعونني إلى ركوب الخيل واللعب بالسلاح والسباحة في نهر قريب من القرية، فرميت الكتاب وانصرفت إليهم.
بعد العصر جاءني الشيخ بكتابه، وألحَّ عليَّ في قراءة شيء منه، قرأت ثم تركته إلى اللعب، وفعل في اليوم الثاني كما فعل في الأول، أما اليوم الثالث فقد بقيت أقرأ له فيه، وهو يشرح لي معاني ما أقرأ نحو ثلاث ساعات لم أملَّ فيها، فقال لي إنه في حاجة إلى الذهاب إلى المزرعة ليعمل فيها، فطلبت منه إبقاء الكتاب معي فتركه، ومضيت أقرأه، وكلما مررت بعبارة لم أفهمها وضعت عليها علامة لأسأله عنها إلى أن جاء وقت الظهر، وعصيت في ذلك اليوم كل رغبة في اللعب، وكل هوى ينازعني إلى البطالة … وعصر ذلك اليوم سألته عما لم أفهمه، فأبان معناه على عادته، وظهر عليه الفرح بما تجدَّد عندي من الرغبة في المطالعة والميل إلى الفهم.
مفتاح سعادتي
كانت هذه الرسائل تحتوي على شيء من معارف الصوفية، وكثير من كلامهم في آداب النفس وترويضها على مكارم الأخلاق، وتطهيرها من دنس الرذائل، وتزهيدها في الباطل من مظاهر هذه الحياة الدنيا.
لم يأتِ عليَّ اليوم الخامس إلا وقد صار أبغض شيء إليَّ ما كنت أحبه من لعب ولهو، وفخفخة وزهو، وعاد أحبَّ شيءٍ إليَّ ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم، وكرهت صور أولئك الشبان الذين كانوا يدعونني إلى ما كنتُ أحب ويزهدونني في عِشْرة الشيخ رحمه الله، فكنتُ لا أحتمل أن أرى واحدًا منهم، بل أفر من لقائهم جميعًا كما يفر السليم من الأجرب.
وفي اليوم السابع سألت الشيخ: ما هي طريقتكم؟ فقال: طريقتنا الإسلام. فقلت: أَوَليس كل هؤلاء الناس بمسلمين؟ قال: ولو كانوا مسلمين لما رأيتهم يتنازعون على التافه من الأمر، ولما سمعتهم يحلفون بالله كاذبين بسبب وبغير سبب.
هذه الكلمات كأنها نار أحرقت جميع ما كان عندي من المتاع القديم … متاع تلك الدعاوى الباطلة، والمزاعم الفاسدة، متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون، وإن كنا في غمرة ساهية.
سألته: ما وِرْدكم الذي يُتلَى في الخلوات أو عقب الصلوات؟ فقال: لا وِرْد لنا سوى القرآن، تقرأ بعد كل صلاة أربعة أرباع من الفهم والتدبر. قلت: أنَّى لي أن أفهم القرآن ولم أتعلم شيئًا؟ قال: أقرأ معك، ويكفيك أن تفهم الجملة وببركتها يفيض الله عليك التفصيل، وإذا خلوت فاذكر الله — على طريقة بيَّنها لي، وأخذت أعمل على ما قال من اليوم الثامن — فلم تمضِ عليَّ بضعة أيام إلا وقد رأيتني أطير بنفسي في عالَم آخَر غير الذي كنت أعهد، واتَّسع لي ما كان ضيِّقًا، وصغر عندي من الدنيا ما كان كبيرًا، وعظم عندي من أمر العرفان والنزوع بالنفس إلى جانب القدس ما كان صغيرًا … وتفرقت عني جميع الهموم، ولم يَبْقَ لي إلا هم واحد، وهو أن أكون كامل المعرفة كامل أدب النفس، ولم أجد إمامًا يرشدني إلى ما وجَّهتُ إليه نفسي إلا ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة، ومن قيود التقليد إلى إطلاق التوحيد … هذا هو الأثر الذي وجدته في نفسي من صحبة أحد أقاربي، وهو الشيخ درويش خضر من أهل (كنيسة أورين) من مديرية البحيرة، وهو مفتاح سعادتي إن كانت لي سعادة في هذه الحياة الدنيا، وهو الذي رد لي ما كان غاب من غريزتي، وكشف لي ما كان خفي عني مما وُدِع في فطرتي.
وفي اليوم الخامس عشر، مر بي أحد سكان بلدتنا (محلة النصر) فأخبرني أن والدتي ذهبت إلى طنطا لتراني، فعلمت أنها ستقول لوالدي إنني لا أزال في بلدة الكنيسة، فأصبحت مبكرًا إلى طنطا خوف عتاب الوالد واشتداده في اللوم؛ لأنني لو كنتُ أقمت له ألف دليل على أنني وجدت في مهربي مطلبه ومطلبي لَمَا اقتنع.
في ساحة الدرس
ذهبت إلى طنطا، وكان ذلك قرب آخِر السنة في شهر جمادى الآخِرة من سنة ١٢٨٢ الهجرية، فاتفق أن بعض المشايخ كانت ماتت بنته، فعاقه الحزن عليها من إتمام شرح الزرقاني على العزية، وآخَر عرض له عارضٌ منعه عن إتمام شرح الشيخ خالد على الآجرومية، فأدركت كلًّا منهما في أوائل الكتاب الذي كان يُدرَّس، وجلست في الدرسين فوجدت نفسي أفهم ما أقرأ وما أسمع والحمد لله، وعرف ذلك مني بعض الطلبة، فكانوا يلتفون حولي لأطالع معهم قبل الدرس ما سنتلقَّاه.
وفي يوم من شهر رجب من تلك السنة، كنت أطالع بين الطلبة وأقرر لهم معاني شرح الزرقاني، فرأيت أمامي شخصًا يشبه أن يكون من أولئك الذين يسمونهم بالمجاذيب … فلما رفعت رأسي إليه قال ما معناه: ما أحلى حلوى مصر البيضاء! فقلت له: وأين الحلوى التي معك؟ فقال: سبحان الله، مَن جَدَّ وجد … ثم انصرف، فعددت ذلك القول منه إلهامًا ساقه الله إليَّ ليحملني على طلب العلم في مصر دون طنطا.
وفي منتصف شوال من تلك السنة ذهبت إلى الأزهر، وداومت على طلب العلم على شيوخه مع محافظتي على العزلة والبعد عن الناس، حتى كنت أستغفر الله إذا كلمت شخصًا كلمة لغير ضرورة … وفي أواخر كل سنة دراسية، كنتُ أذهب إلى (محلة نصر) أقيم بها شهرين من منتصف شعبان إلى منتصف شوال، وكنت عند وصولي إلى البلد أجد خال والدي الشيخ درويشًا قد سبقني إليه، فكان يستمر معي يدارسني القرآن والعلم إلى يوم سفري، وكل سنة كان يسألني ماذا قرأت، فأذكر له ما درست، فيقول: ما درست المنطق! ما درست الحساب! ما درست شيئًا من مبادئ الهندسة! … وهكذا كنت أقول له: بعض هذه العلوم غير معروف الدراسة في الأزهر. فيقول: طالب العلم لا يعجز عن تحصيله في أي مكان … فكنتُ إذا رجعت القاهرة، ألتمس هذه العلوم عند مَن يعرفها، فتارةً كنت أخطئ في الطلب، وأخرى أصيب، إلى أن جاء المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني إلى مصر سنة ١٢٨٦ﻫ.
لقاء بالسيد جمال الدين
وقد صاحبته من ابتداء شهر المحرم سنة ١٢٨٧ﻫ، وأخذت أتلقَّى عنه بعض العلوم الرياضية والحكمية (الفلسفية) والكلامية، وأدعو الناس إلى التلقي عنه كذلك.
وأخذ مشايخ الأزهر والجمهور من طلبته يتقوَّلون عليه وعلينا الأقاويل، ويزعمون أن تلقِّي تلك العلوم قد يفضي إلى زعزعة العقائد الصحيحة، وقد يهوي بالنفس في ضلالات تحرمها خيري الدنيا والآخرة، فكنت إذا رجعت إلى بلدي عرضت ذلك على الشيخ درويش، فكان يقول لي: «إن الله هو العليم الحكيم، ولا عِلْم يفوق علمه وحكمته، وإن أعدى أعداء العليم هو الجاهل، وأعدى أعداء الحكيم هو السفيه، وما تقرَّبَ أحدٌ إلى الله بأفضل من العلم والحكمة، فلا شيء من العلم بممقوت عند الله، ولا شيء من الجهل بمجحود لديه إلا ما يسميه بعض الناس علمًا، وليس في الحقيقة بعلم، كالسحر والشعوذة ونحوهما إذا قُصِد من تحصيلهما الإضرار بالناس.»
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة