فى حياتنا غرائب مسلية ممتعة ومواقف سلبية، ومع تفاعل الناس تحدث الجرائم بطبيعة الحال، ويترتب على الجرائم قضايا تنظرها أروقة النيابات والمحاكم من بعدها، وبين تلك القضايا نجد قضايا تتسم بالغرابة والدهشة، وفى السطور التالية نتناول واحدة من أغرب هذه القضايا التى نرصد تفاصيلها على لسان المستشار بهاء الدين أبو شقة فى كتابه "أغرب القضايا".
أحداث هذه القضية متعددة الفصول لم تحدث وقائعها كما هو الحال فى القضايا الجنائية دفعة واحدة.. وإنما تعددت فيها المواقف على النحو جعل من كل موقف منها حدثاً مثيراً شكل فى ذاته قضية كاملة.. فالأحداث وإن ربط بينها ووحدها أشخاصها إلا أن أحداثها مغايرة مختلفة الخيال فيها أقرب من الواقع.
ويقول المستشار أبو شقة، كانت بداية لقائى بأحداثها فى بداية الستينيات عندما كنت وكيلاً لنيابة الجيزة الكلية، أجلس فى مكتب رئيس النيابة، والذى كانت له سلطات المحامى العام فى ذلك الوقت، عندما كان زميل لى يعرض قضية قتل اتهم فيها مهندس- يعمل مديراً فى أحد المصانع الكبرى بأحد مراكو الجيزة- بقتل زوجته الشابة.
كانت وقائع الجريمة وأدلتها مثيرة للحيرة، فقد تضمنت حسب عرض زميلى لها أن زوجته عثر عليها مقتولة داخل شقتها الفاخرة فى إحدى العمارات الشاهقة أمام حديقة حيوان الجيزة، حيث فوجئت الخادمة عند عودتها عقب شراء بعض متطلبات المنزل بها غارقة فى دمائها.. وهو ما قررته بالتحقيقات وأنها لا تعلم شيئاً عن الجريمة أو دوافعها أو الجانى، إذ وقعت فى غيبتها، وأضافت أن باب الشقة كان مفتوحاً على غير العادة وأنها صرخت مستغيثة بمجرد رؤيتها هذا المشهد البشع الذى ما كان يخطرلها ببال أو يجول لها بحسبان.
وبانتقال الشرطة فور إبلاغ الجيران بالحادث ومعاينة مسرح الجريمة تبين أنها مصابة بعدة طعنات نافذة إلى صدرها وقلبها، وما أثار الغرابة أنه بتفتيش دولاب ملابسها تبين أن مصوغتها ومجوهراتها لم تمسسها يد، ولم تتعرض للسرقة حتى أساورها الذهبية ودبلة الزواج وخاتم ثمين من الماس كانت فى يدها.. كما أنه لم يتبين أى من سرقة أى من محتويات الشقة، مما رجح أن جريمة القتل لم تكن بقصد السرقة.. وأثار العديد من التساؤلات عن الباعث الحقيقى لارتكابها.
ونشطت التحريات وانتهت إلى صحة ما قررته الخادمة، وأن ما قررته من أقوال هو الحقيقة وأنها ليس لها أى يد فى أحداث الجريمة.. غير أن أصابع الاتهام أشارت إلى الزوج.. وأنه هو الذىدبر جريمته بإحكام، ما عزز هذه التحريات وعضدها وقوى من شأنها، ما أشارت إليه من باعث ودافع لقتلها، إذا كشفت التحريات عن وجود علاقة أثمة وحب قديم كان يربط بينه وبين سيدة أخرى، وأنها تزوجت وعاشت مع زوجها الذى اصطحبها إلى أحد بلاد النفط، فقد تزوجته طمعاً فى ماله، إلا أنه قد توفى مؤخراً، وما إن عادت إلى القاهرة حتى سارعت بالاتصال به إحياءً لعلاقتهما القديمة، وسال لعابه أمام ثرائها وما تكتنزه من أموال ثمناً لهذه الزيجة من ذلك الكهل الذى استبد به المرض، وقد تأكد عودة هذه العلاقة ولقاءاتهما المستمرة فى شقتها التى ورثتها عن المرحوم.. ولكن السؤال المحير ما الذى يدفع الزوج إلى أن يغامر بمركزه ومستقبله بل وحياته ليرتكب جريمة قتل زوجته، إذ إن فى إمكانه أن يطلقها ليعود إلى ماضيه الذى يجد فيه المتعة ولذة الحياة.
غير أنه ما لبث أن تراجع هذا الشك أمام ما ثبت من اطلاع وكيل النيابة المحقق على دفتر الحضور والانصرف ، فتبين أنه حضر ووقع الساعة الثامنة والدقيقة الرابعة، وأنه انصرف ووقع فور علمه بالحادث الساعة الواحدة ودقيقتين.. كما تبين أن بروتوكول ونظام المصنع الذى يعمل فيه يفرض على أى موظف أو عامل مهما كان مركزه بعد دخوله المصنع عدم الانصراف أو الخروج إلا بتصريح يسجل بدفتر البوابة الذى يلزم الجميع بالتوقيع فيه، ويثبت ساعة ودقيقة الحضور والانصراف.
لكن ما استوقف النظر ما انتهت إليه التحريات، أن الزوجة كانت دميمة بدينة فاتها قطار الزواج عندما تزوجها.. وأنه ضعيف الشخصية أمام زوجته وأسرتها، فقد كانت من أسرة لها جبروتها وسطوتها، كما أن الزوجة كانت قوية الشخصية شديدة البأس مسموعة الكلمة لا يستطيع أن يرد لها قولاً أو يعصى لها أمراً.ز كان مقهوراً مغلوباً على أمره يحس فى أعماقه بالذل والانكسار والمهانة والندامة لزواجه منها.. فقد تزوجها لحظة يأس بعد زواج محبوبته وسفرها مع زوجها.. كان يتذكر من حين لأخر الأيام الخوالى التى عاشها عاشقاً ولهاناً مدللاً من محبوبته، فكان لا يمل الشكوى إلى أصدقائه المقربين طالباً منهم النصح والتفكير معه فى مخرج لهذه الورطة، ونصحه الأصدقاء أن الحل الوحيد هو أن يطلق زوجته، إلا أن العقبة التى كانت تحول بينه وبين ذلك هو مؤخر الصداق الكبير الذى التزم به، فضلاً عن شيكات وقعها على بياض كانت تهدده دائماًبها.
وكان رأى زميلى وكيل النيابة الذى حقق القضية وقام بعرضها على النحو السالف، وقد خلت القضية من دليل قاطع.. إصدار قرار بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية قبل المهندس الزوج لعدم كفاية الأدلة " أى حفظ القضية".. وتكليف الشرطة بالبحث عن القاتل الحقيقى.
وفى تلك الأثناء التى أمسك فيها رئيس النيابة بقلمه وهم بالتأصير بتأييد ما انتهى إليه وكيل النيابة تأسيساً على ما سلف.. قطع ذلك دخول أحد كبار رجال القضاء، حيث هم رئيس النيابة باستقباله فانصرفت أنا وزميلى حتى صباح اليوم التالى ليصدر تأشيرته.
وتشاء الأقدار أن يصاب زميلى فى اليوم التالى بمغص كلوى حاد، وتم نقله للمستشفى،وأجرين له عملية جراحية " مراراة" حصل معها على إجازة مرضية لمدة شهر، فأحال رئيس النيابة القضية إلى للتصرف وطلب منى أن أعد قرارً فى قضية زميلى المريض التى سيق عرضها عليه " قرارا بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم كفاية الأدلة".
كان عليا أن أقرأ أوراق القضية جيداً، وانتهى بى إلى ضرورة استيفاء التحقيقات من عملية دخول وخروج المهندس من بوابة المصنع، وقوفاً عما إذا كان قد حضر وانصرف فى اليوم نفسه الذى وقعت فيه الجريمة وفقاً لما ثبت فى دفترى الحضور والانصراف،غير أن رئيس النيابة بادرنى وأنا أعرض عليه وجهة نظرى بان وكيل النيابة المحقق سبق أن اطلع على الدفترين وتبين منهما توقيع المتهم أمام ساعة الحضور،وتوقيعه أيضاً أمام ساعة الانصراف، وهنا عرضت وجهة نظرى المخالفة وفحواها والأساس الذى كونت عليه عقيدتها فى هذا الخصوص من التحقيقات،قد جاءت قاصرة من التثبت على نحو يقينى أن التوقيعين بالحضور والانصراف- هما للمتهم، وهو ما لا يمكن القطع به إلا بتحقيقه فنياً عن طريق الطب الشرعى" قسم الأبحاث والتزييف" لإجراء مضاهاة بين توقيع المتهم وبين التوفقيع المنسوب إليه بدفترى الحضور والانصراف.
وبالفعل تم الاستيفاء المطلوب وأرسل المتهم ودفترى الحضور والانصراف إلى الطب الشرعى، لبيان عما إذا كانا متطابقين من عدمه، " أى لشخص واحد أم لشخصين".
وكانت المفاجأة التى أكدت صدق توقعى، فقد ثبت من إجراء المضاهاة أن التوقيع المنصوب للمتهم على دفترى الحضور والانصراف ليس توقيعه.، فقمت على الفور باستجواب موظف الاستعلامات بالمصنع المسئول عن دفترى الحضور والانصراف، وواجهته بالدليل الجديد .. فلم يملك غير الاعتراف بأن الخط المنسوب إلى المتهم فى الدفترين خطه هو، وأضاف أن المتهم هومن طلب منه التوقيع بدلاًمنه لأنه لن يحضر هذا اليوم، إذ لديه أمر مهم يريد أن ينهيه، وألح عليه فى ذلك خاصةً أنه رئيسه فى العمل.
فاستدعيت الخادمة التى نفت أقوال المتهم تماماً، وأكدت أنها لم تتصل به فى عمله، حيث ذكر ذلك فى بداية التحقيقات من أنه علم بالحادث من بلاغ الخادمة،وأصرت على أنه قد حضر بعد حضور الشرطة بدقائق ولا تعلم من الذى أخبره بالحادث.
فاستدعيت المتهم وسألته مجدداً: كيف علمت بالحادث؟، فأجاب بأن الشغالة هى التى اتصلت به فى العمل وأخبرته بالحادث، فواجهته بإنكار الخادمة، وأنها لم تحدثه تليفونياً بالحادث إذ أنه لم يكن موجوداً أصلاً فى العمل يوم الحادث، فازداد اضطراباً وعصبية وإجهاشاً فى البكاء مردداً عبارة " مظلوم.... مظلوم".
تم إعداد أدلة اتهام جديدة وإحالة المتهم إلى محكمة الجنايات، بتهمة قتل زوجته عمداً.. وقضت المحكمة بمعاقبة الزوج "المهندس" بالأشغال الشاقة المؤبدة.