كانت الساعة السابعة صباح يوم 11 يوليو سنة 1952، حين أطلق الأسطول الإنجليزى قذائفه على الإسكندرية بأوامر من قائده الأميرال «سيمور» الذى أنذر الجيش المصرى بإيقاف الأعمال فى «طوابى الإسكندرية» والكف عن وضع المدافع فيها، وإنزال ما تم نصبه منها، حسبما يذكر أحمد شفيق باشا، أحد رجال معية الخديو توفيق، فى الجزء الأول من مذكراته «مذكراتى فى نصف قرن».
يضيف «شفيق»: «فى 10 يوليو أرسل «سيمور» إنذارا نهائيا إلى طلبة عصمت باشا، قائد الجيش فى الإسكندرية، بتنفيذ مطالبه خلال أربعة وعشرين ساعة وإلا اضطر إلى تدمير هذه الطوابى، فدعا الخديو توفيق إلى عقد «مجلس فوق العادة» برئاسته فى سراى رأى التين حضره «راغب باشا» رئيس الحكومة، وأحمد عرابى ناظر الجهادية، وباقى النظار وسلطان باشا رئيس مجلس النواب وبعض الأعيان وقادة عسكريون.
يذكر «شفيق» أن المجلس رفض طلبات «سيمور»، واضطر الخديو أن ينتقل ومن معه إلى مكان بعيد عن الأخطار، وأشار إليه مستر «كارترايت» نائب قنصل إنجلترا أن ينزل وأسرته إلى إحدى البوارج الإنجليزية، لكن الخديو رفض، وانتقل هو ومن معه إلى سراى مصطفى باشا بالقرب من سيدى جابر، وفى الساعة السابعة، أطلق الأسطول نيرانه على الطوابى فلم تجبه إلا بعد إطلاق عدة طلقات، ثم اشتبك الفريقان فى القتال، وتناثرت القنابل فى الجو، واشتد الترامى من الجانبين، ثم رأينا اللهب يرتفع فوق المدينة من جهات مختلفة، وانتشر بشكل مريع، وبعد ثلاث ساعات أخذت النار التى شبت فى الاستحكامات تتضاءل، حتى إذا جاء الظهر كان قد تم تدمير أغلبها.
يذكر الإمام محمد عبده فى مذكراته، تحقيق وتعليق طاهر الطناحى، أن أحد الضباط الذين كانوا فى معية الخديو توفيق سأله: «ما مصير الإسكندرية لو ضربها الإنجليز؟ فأجاب الخديو: «ستين سنة»، وهز كتفيه، ويفسر الطناحى إجابة الخديو قائلا: «لعله يقصد ستين سنة احتلالا إنجليزيا لمصر»، ويستكمل محمد عبده باقى حوار الضابط مع الخديو: «قال الضابط: لكن السكان سيحرقونها، فأرجو أن تتوسط لدى الأميرال سيمور، والوقت لم يزل يسمح بذلك، استدع ذوالفقار وأمره أن يحافظ على المدينة فعنده من الرجال الكفاية، فأجاب الخديو: «فلتحترق المدنية جميعها ولا يبقى فيها طوبة على طوبة، حرب بحرب، كل ذلك يقع على رأس عرابى ورؤوس أولاد الكلب الفلاحين، وسيذوق الأوربيون الملاعين عاقبة هروبهم مثل الأرانب»، وأحدث هذا الهجوم نزوحا مأساويا للسكان يصفه محمد عبده، قائلا: «نحو مائة وخمسين ألفا من السكان مجردين من كل شىء أخذوا فى الحركة لغير قصد ولا لمأوى، الموت والفزع فى نفوسهم على شطوط المحمودية إلى دمنهور وجسر السكة الحديد من دمنهور إلى القاهرة».
بعد سبعين عاما من هذا الحدث المشؤوم، وتحديدا فى عام 1952، كتب عباس محمود العقاد كتابه «ضرب الإسكندرية فى 11 يوليو»، يتناول فيه كل ما جرى، حتى يصل إلى القول: «لقد قيل يومئذ ولا يزال يقال إلى اليوم إن معارضة عرابى فى تسليم القلاع هى التى جرت إلى الاحتلال، مع أن تسليم القلاع هو الاحتلال بعينه مقبولا برضا الجميع من غير مقاومة ولا اعتراض، وقد أثبت التاريخ المنصف أن عرابى استمر فى مقاومته لذلك الاحتلال الإنجليزى إلى ما بعد ضرب الإسكندرية، ولم يكن صد الجيش الإنجليزى ميؤسا منه، بل كان عل نقيض ذلك لولا خيانة المأجورين على هداية ذلك الجيش فى دروب الصحراء، ولولا إعلان السلطان عصيان عرابى بإلحاح من الإنجليز».
فى إبريل 1982 أعيد طبع كتاب عباس العقاد عن دار المعارف، وكتب ابن شقيقه عامر مقدمته قائلا: «صدرت الطبعة الأولى منه وفاروق قائم على عرش مصر ملكا عليها، وارثا ذلك العرش عن الآباء والأجداد، كانت طبعته الأولى بسلسلة «كتاب اليوم» التى كانت تصدرها دار أخبار اليوم آنذاك، فأصدرته وطرحته بالأسواق فى الخامس من يوليو، مثل هذا اليوم، 1952، إلا أنه صودر فى اليوم السادس بأمر فاروق أو حاشية فاروق لا لشىء اللهم إلا لأنه قد أفشى قليلا من الأسرار التاريخية التى لصقت بذلك اليوم العصيب».
يضيف عامر: «سمعت أستاذنا العقاد يقول ذات يوم فى معرض حديث له عن هذا الكتاب: إننا لم نقل كل ما ينبغى أن يقال، وعذرنا فى ذلك- مع هذا- لم يسلم من المصادرة السريعة، ولم تصبر عليه حاشية القصر بضع ساعات، ولا نقول بضع أيام. إن الشاهد بين يدى القضاء يقسم اليمين على أن يقول الحق، وأن يقول كل الحق ولا يقول إلا الحق، وأردت أن أقسم هذا اليمين بين يدى التاريخ فأشفقت أن أكون بهذا قائلا ما لا يقرأ ولا يسمع له خبر، فاكتفيت بثلث اليمين، وأقسمت أن أقول الحق ولا أقول إلا الحق، وكأننى لم أصنع شيئا بهذا الاختصار».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة