الصراع الذي تأجج بين الكنائس في كييف وموسكو لم يكن وليد اللحظة ، ولم يبدأ مع الرصاصة الأولي في الحرب الجارية منذ 24 فبراير 2021 ، وإنما لديه جذور متشابكة منذ عقود مضت نمت في بيئة خصبة للانقسامات وتركيبة سكانية ذات غالبية ارثوذكسية في أوكرانيا مع أقلية كبيرة من الكاثوليك وأقليات أخري من البروتستانت واليهود والمسلمين ، ورئيس مثير للجدل يهودي الديانة هو فولوديمير زيلينسكي الذي لم يلتفت كثيراً لملف الكنيسة داخل بلاده قبل اندلاع الأزمة.
وقبل اندلاع الحرب الأوكرانية، كان ملف الكنيسة ـ ولا يزال ـ من أكثر الملفات الشائكة ، التي ربما لم يلتفت لها الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي، بخلاف سلفه الرئيس بيترو بوروشينكو، الذى قدم رابطًا مباشرًا بين الاستقلال الديني والسياسي عندما قال في 2018: "استقلال كنيستنا هو جزء من سياساتنا المؤيدة لأوروبا والموالية لأوكرانيا".
الانقسام والولاء الكنسي المتضارب خلال الحرب الأوكرانية، كان محور تقرير لصحيفة جارديان البريطانية في الأشهر الأولي للحرب، حيث شككت في تقرير لها في ولاء الكنائس الأوكرانية للقيادة السياسية في كييف ، وقالت إن بعض الكنائس الأوكرانية ترتبط بولاء تاريخي تجاه روسيا ، برغم انفصالها رسمياً عن الكنيسة الروسية قبل 3 سنوات ، ونقلت عن مواطنين ورجال دين أوكرانيين مخاوف من احتمالات أن تكون تلك الكنائس منحازة لروسيا في الحرب الدائرة حتي الآن.
وفى تقريرها السابق، قالت الصحيفة البريطانية إن حالة من الصدمة سيطرت علي أفراد من القوات الأوكرانية حين ذهبوا للبحث عن مصدر لأشعة ليزر شك البعض أن يكون محاولات لاستهداف قاعدتهم العسكرية غرب البلاد، وكانت المفاجأة حين وجدوا أن المصدر يخرج من كنيسة قريبة في منطقة كولوميا يديرها رهبان روس واكتشفوا أيضا وجود مخزون كبير من الطعام والمشروبات الكحولية بالإضافة الى 3 بنادق جاهزين للاستخدام العسكري.
وبحسب التقرير، قال الأب ميخايلو أرسينخ ، قسيس في الوحدة الأوكرانية التي فتشت الكنيسة، بحسب الجارديان: "إنه أمر مفاجئ للغاية، لأنه كان ديرًا.. كان هناك مخزون كبير من الطعام، معبأ للاستخدام العسكرى، ومصمم لاستيعاب 60 إلى 65 شخصًا لفترة طويلة جدًا".
وأضاف: "وجدنا مسدسين وبندقية صيد تم تحويلها من بندقية كلاشينكوف قتالية.. وعند سؤالهم عن سبب الحيازة لم يتمكنوا من إجابة السؤال عن سبب احتياج القساوسة للبنادق".
الكنيسة والسياسة.. خطاب الحرب والأزمة
واقعة دير كولوميا كانت حلقة من سلسلة معقدة قبل وأثناء العملية الروسية في أوكرانيا، ففيما أقحم القساوسة ما هو سياسي بما هو دينى.. خلط المسئولون في موسكو وكييف ما هو دينى بما هو سياسى.
وفي بداية العام الجاري ، وفي رسالة تهنئة بمناسبة عيد الميلاد المجيد ، أشاد الرئيس الروسي بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية لدعمها قوات بلاده التي تقاتل في أوكرانيا.
وأصدر الكرملين هذه الرسالة بعد أن حضر الرئيس الروسي قداس عيد الميلاد للكنيسة الأرثوذكسية بمفرده داخل كاتدرائية في الكرملين بدل الانضمام إلى المصلين في احتفال عام.
وأوضح بوتين أنه يعد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية قوة مهمة لتحقيق الاستقرار في المجتمع في وقت يشهد "صداما تاريخيا" بين روسيا والغرب بسبب أوكرانيا وقضايا أخرى.
وقال بوتين إنه "من دواعي سروري أن أشير إلى المساهمة البناءة الضخمة التي تقدمها الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والطوائف المسيحية الأخرى في روسيا من أجل توحيد المجتمع والحفاظ على ذاكرتنا التاريخية وتعليم الشباب وتعزيز مؤسسة الأسرة"، مؤكداً أن "منظمات الكنيسة "تعطي أولوية لدعم محاربينا المشاركين في العملية العسكرية الخاصة (فى أوكرانيا)، ويستحق هذا العمل العظيم والمتفاني احتراما حقيقيا".
وكان الرهان علي دعم الكنيسة حاضراً قبل انطلاق العملية العسكرية الروسية، ففي خطاب ألقاه الرئيس الروسي يوم 21 فبراير 2021 ، قبل أيام قليلة من الحرب ، سعى بوتين إلى تبرير المعركة التي لم تكن قد بدأت بعد، وقال إن كييف كانت "تستعد لتدمير الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو".
ولم يختلف خطاب بوتين كثيراً قبل 8 سنوات، ففي عام 2014 ، حينما استولت روسيا علي شبه جزيرة القرم ، وصف الرئيس الروسي تلك الأرض بـ"المقدسة" بالنسبة لروسيا، كما هو الحال بالنسبة للمسجد الأقصى وجبل الهيكل في القدس بالنسبة للمسلمين واليهود". وتابع :بالقرم.. في خيرسونيسوس القديمة ـ التي أصبحت سيباستوبول لاحقا ـ تعمد الأمير فلاديمير قبل أن يبدأ تعميد روسيا.. هناك تقع الجذور الروحية للوحدة التاريخية للأمة الروسية وللدولة الروسية المركزية. على هذه الأرض، فهم أجدادنا أنهم شعب واحد، إلى الأبد".
وبعد الحرب الأخيرة، قدم أسقف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وبطريرك موسكو وعموم روسيا البابا كيريل، خطاباً داعماً للعملية الروسية في أوكرانيا ،معتبراً أنها حرب ضد من يحاولون انتهاك "القانون الإلهي".
وقال البابا كيريل في عظة ليلة 6 مارس 2021، إن الحرب في أوكرانيا تدور حول "الرفض الجوهري لما يسمى بالقيم التي يقدمها اليوم أولئك الذين يدعون أنهم القوى العالمية وأن الاختبار حول الجانب الذي تقف معه، وما إذا كان بلدك على استعداد لتنظيم مسيرات فخر المثليين.
وتابع البابا: "من أجل الدخول إلى نادي تلك البلدان، من الضروري إقامة موكب فخر للمثليين. ليس لإعلان موقف سياسي، ليس للتوقيع على أي اتفاقيات، ولكن لإجراء مسيرات فخر للمثليين".
وأضاف: "إذا رأينا انتهاكًا للقانون الإلهي، فلن نتسامح أبدًا مع أولئك الذين يفسدون هذا القانون، ونطمس الخط الفاصل بين القدسية والخطيئة، بل وأكثر من ذلك مع أولئك الذين يروجون للخطيئة كمثال أو كأحد نماذج السلوك الإنساني"، وتابع بالقول: "هناك حرب حقيقية حول هذا الموضوع اليوم".
في المقابل، كان رد فعل الميتروبوليت أونوفري، راعي الكنيسة الأوكرانية، الذي شبّه الحرب بـ "خطيئة قابيل" الذي قتل شقيقة هابيل، يشير إلى أنه حتى الكنيسة التي تميل إلى كنيسة موسكو لديها شعور قوي بالهوية الوطنية الأوكرانية.
وكانت رواية "قابيل وهابيل" حاضرة بكثرة في خطاب العديد من رجال الدين الأوكرانيين علي مدار الحرب الدائرة ، بل إن بعضهم اعتبر الرئيس الروسي فلادمير بوتين بشكل واضح "قابيل هذا العصر"، مثلما قال ايوف أولشانسكي الكاهن في دير القيامة الأرثوذكسي الجديد في مدينة لفيف بغرب أوكرانيا الذي قال "الرئيس الروسي هو قايين (قابيل) اليوم".
هذا بخلاف اتهام الكنيسة الروسية والكرملين بالكذب. ففي تصريحات نشرتها شبكة فرانس 24 ، قال الأب نيكولاي دانيلفيتش : "الكذب خطيئة والسلطات الروسية تكذب. وقد صدقها الكثيرون.. قال المسؤولون هناك إنه لن تكون هناك حرب، وإنهم لم يخططوا لأي شيء لذلك فإن الهجوم الروسي خيانة كسرت جميع أشكال الثقة".
بدوره، عبر كاهن كنيسة أوبوخيف الأوكرانية عن حزنه في مقابلة بعد انتهاء القداس قائلا: "هذا بلدنا وهذه أرضنا وهذا شعبنا.. فكيف يمكننا أن نظل غير مبالين.. نصلي لجيشنا، ونصلي لأمتنا، لأننا أمة"، ردا على إنكار بوتين وجود أمة أوكرانية. وتابع: لا يمكنني حمل السلاح، وسلاحي الوحيد هو الصلاة".
وبحسب فرانس 24 ،دعت مجموعة من الكهنة الأوكرانيين من منطقة لفيف إلى عقد اجتماع وطني للكنيسة لإعلان استقلالها رسميا عن موسكو، وأطلقت هذه الدعوة أمام كنيسة القديس جاورجيوس، مقر الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في لفيف بجانب آخر يعدد احتياجات المقاتلين الأوكرانيين.
تاريخ من الانقسامات
ويوجد في أوكرانيا كنيستين أرثوذكسيتين متنافستين: واحدة مستقلة وأخرى تابعة لبطريركية موسكو. ونظرا لتاريخها القديم الذي يمتد 300 سنة، فإن هذه الأخيرة تعد الأكبر في أوكرانيا لاحتوائها على عدد أبرشيات أكبر.
وقد ساهمت الحرب الأخيرة في تعميق الخلاف بين رجال الدين في موسكو والفرع الأوكراني لبطريركية موسكو.
وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، انقسمت الطائفة الأرثوذكسية في أوكرانيا إلى ثلاثة فروع: فرع تعهد رجال الدين فيه بالولاء لبطريركية موسكو، وآخر تابع للبطريركية التي تأسست حديثا في كييف وكنيسة أوكرانية ارثوذكسية مستقلة أصغر. ىلكن هذا تغير بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 ، ثم دعمت الانفصاليين الذين شكلوا منطقتين منفصلتين غير معترف بهما في شرق أوكرانيا. أدى هذا النزاع الى مقتل حوالى 13 ألف شخص.
وبعد أربع سنوات من ضم شبه جزيرة القرم، اعترفت بطريركية القسطنطينية المسكونية ومقرها إسطنبول باستقلالية كييف دينيا، مما أتاح إنشاء كنيسة أوكرانية موحدة.
وخسرت الكنيسة الروسية العديد من أعضائها لصالح الكنيسة الأوكرانية الموحدة الجديدة لكنها ظلت ثاني أكبر طائفة في البلاد. فقد أفاد استطلاع للرأي أجري في 2021 أن 58% من المؤمنين الارثوذكس يعتبرون أنهم أعضاء في الكنيسة الموحدة الجديدة مقابل 25% لا يزالون تابعين لبطريركية موسكو.
وفي تصريحات نشرتها شبكة "سي إن إن" قالت ماريانا كارابينكا -رئيسة قسم الاتصالات في الكنيسة الكاثوليكية الأوكرانية في فيلادلفيا: "في كل مرة تستولي فيها روسيا على أوكرانيا، يتم تدمير الكنيسة الكاثوليكية الأوكرانية.. فقد تعرض الكاثوليك الأوكرانيون لقمع شديد من قبل السوفييت، حيث استشهد العديد من الرموز هناك. وواصل العديد من الكاثوليك الأوكرانيين العبادة تحت الأرض، ولم تنتعش الكنيسة بقوة إلا بعد نهاية الشيوعية".
الفاتيكان .. غصن زيتون يحاول الصمود
ووسط الصراع المحتدم ، وفي ظل فشل مبادرات السلام في احتواء الازمة الأوكرانية ودخول اطراف عدة آخرها الصين ، لم يكل الفاتيكان من محاولات التهدئة ونزع فتيل الحرب ، حيث وجه البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، دعوات متكررة للسلام في أوكرانيا.
ومطلع الشهر الجاري، تم تعيين الكاردينال ماتيو زوبي رئيسًا لـ "مهمة سلام" الفاتيكان "للمساعدة في تخفيف التوترات في الصراع الأوكرانى.
وقالت صحيفة "الاكونوميستا" الإسبانية فى تقرير لها يونيو الجاري إن الكاردينال ماتيو زوبي، رئيس أساقفة بولونيا ورئيس المؤتمر الاسقفى الإيطالى، زار العاصمة الأوكرانية للاستماع إلى السلطات حول السبل الممكنة لتحقيق سلام عادل ودعم لفتات الإنسانية التى تساهم في تخفيف التوترات بين طرفي النزاع، وفقا لاذاعة الفاتيكان.
ومنتصف يونيو الجاري، أعرب بابا الفاتيكان فرنسيس، عن امتنانه للمتحدث الرسمي باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، والقيادة الروسية، لتقييمهما دبلوماسية الفاتيكان، وقال إنه لا يعارض المشاركة الشخصية في محادثات السلام.
وأشار رئيس الاتحاد العالمي للمؤمنين القدامى، ليونيد سيفاستيانوف، إلى أن الفاتيكان "دعا دائماً إلى الحياد السياسي"، والالتزام بالحل السلمي للصراع من خلال المفاوضات المباشرة بين الأطراف، مشدداً على أن "حياة الناس وصحتهم يجب أن تكون أولوية الدول".
وكان المتحدث الرسمي باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، قد تحدّث في وقت سابق عن إمكانية عقد قمة سلمية حول أوكرانيا في باريس، على أن يقوم بدور الوسيط في هذه القضية أي من الدول المحايدة: البرازيل أو الصين أو الدول الأفريقية أو الفاتيكان.
كذلك، أعلنت وزارة الخارجية الروسية، مطلع يونيو أن موسكو على علم بمبادرة بابا الفاتيكان لإرسال مبعوث إلى روسيا لتسوية الأزمة الأوكرانية.
وأضافت الخارجية الروسية أنها تقيّم محاولات الفاتيكان بشكل إيجابي، لافتةً إلى أن موسكو تلاحظ الرغبة الصادقة في المساهمة في عملية السلام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة