بقاؤنا موت وخروجنا موت.. فطريق الخروج من الخرطوم بين نيران القصف وجثث الموتى ليس كل الخطر، فهناك ويلات أخرى رواها أصحابها بعد أن تمكنوا من التقاط أنفاسهم ووصلوا إلى مكان آمن.. "آفاق" فتاة سودانية أتت إلى مصر مع عائلتها هاربة من الصراع في السودان باغية حياة آمنة، رحلتها استمرت ما يقرب من أربعة أيام ولكنها مرت كالدهر، وكأنها ضاعفت عمرها البالغ 21 عامًا واختصرت تفاصيل الحرب بالسودان من طلقات الرصاص، وفقدان الأقارب والأحباب حتى الوصول إلى أرض الأمان.. حكايات الألم التي عاشها أبناء وادى النيل روتها "آفاق" لـ "اليوم السابع".
آفاق
ما قبل الرحلة
عادة يستقبل أبناء وادى النيل العيد بدق الطبول وأصوات الأغانى ولكن هذا العام اختلف الأمر، فتسابقت أصوات دانات المدافع تدوى في سماء الخرطوم، فهو عيد لم يأت بعد، "أول مرة يجى العيد اسمع صوت نواح بدل الأغانى وصراخ بدل الضحك، أول مرة أشعر بطعم المرارة وأشوف الموت في كل لحظة.. بدأت الفتاة حديثها بتلك العبارات المؤثرة المصاحبة لدموعها.
تروى آفاق رحلتها قائلة: "من شدة أصوات الضرب الرصاص والقنابل كنا بنستخبي تحت السرير، كثير من جيراننا اختفوا خرجوا ومارجعوش، واحد جارنا خرج مع بنته للسوق مارجعش ضربوه بالرصاص والبنت في العناية بين الحياة والموت، وفي ست معاها طفلة كانت ماشية في الشارع ضربوها بالرصاص لكن البت لسه عايشة، في واحدة جت عايزة تاخد الطفلة قالوا لها لا، لو أخدتها هنقتلك فسابتها ومشيت، وحكايات كتير، ناس ماتت مش لاقيه حد يدفنها".
وتابعت الفتاة: "إحساس قاتل بالخوف، أقرب حد ليكى يموت، بيقولوا خلاص نهايتنا قربت، الأحسن الزول يموت بدل ما يكون في خوف ورعب كده، الطلقات في كل حتة ضرب عشوائي اللى يموت ماحدش يسأل عنه ولا حد يقدر يعالجه".
آفاق مع والدتها في كركر بأسوان
مع شدائد الحرب والصراع بين الأطراف في السودان، يعيش الأهالى بدون ماء وانقطاع الكهرباء والإنترنت، وانتهاء المؤن والأدوية من البيوت، تقول الفتاة: "صعبة العيشة في الظلمة ليل نهار، الصبح مقفلين الشبابيك ومحرومين من نور ربنا عشان خايفين من رصاص العشوائى، وبالليل ظلمة عشان الكهربا مقطوعة، مافيش ميه ولا أكل، ولا دواء، كان لازم نمشي".
تركت الفتاة طفولتها وذكريات الصحاب بين رصاص الحرب، ولم يكن الخروج من الخرطوم سهلاً، ولكن مواجهة المستغلين وسماسرة وسائل النقل البري كان من أصعب مواجهات الحرب، فسعر بطاقة الحافلة من السودان إلى مصر ارتفع من الـ 20 ألف جنيه قفز إلى 600 ألف جنيه سوداني، والحافلة التي ضمت آفاق وأسرتها كانت تحمل 50 فردًا آخر، يعانون جميعًا مرارة الرحلة.
آفاق مع والدتها
تقول الفتاة: "طلعنا ماخدناش حاجة معانا، أصلاً ما ينفعش نفكر هناخد إيه ونسيب إيه، كما العربية كان فيها أكثر من 50 واحد كنا فوق بعض، والطريق كان طويل جدًا، الأطفال بتبكى طول من الجوع ونقص المياه، والكبار كان بيغمى عليهم من الحر ونقص الأدوية، في ناس ماتت قدام عنينا، الرحلة طويلة وصعبة ما شفوناش فيها النوم لحظة واحدة".
لم تغمض الفتاة عيناها وتخلد في نوم عميق إلا بعد أن اطمأنت أنها وعائلها داخل الحدود المصرية، بابتسامة بيضاء وكلمات رقيقة تربت على القادمين وتخفف عنهم أهوال الرحلة، فتح أهالى مدينة كركر المصرية بمحافظة أسوان بيوتهم للأشقاء من أبناء وادى النيل وطمأنتهم من أهوال الحرب، بالإضافة إلى تسهيلات المتطوعين من أبناء المحافظة لمساعدة النازحين، عائلة آفاق قامت باستئجار منزل للعيش فيه.
آفاق وعائلتها
"طلعنا خلاص وركبنا العبارة ووصلنا وقالوا لنا خلاص دى مصر، حسيت إحساس مش ممكن توصف، من قمة الخوف والرعب لقمة الأمان، حست إنى عاوزة أغمض عينيا وأنام، كان استقبال كبير، المعابر مفتوحة دخلنا كلنا، في تنظيم والكل بيساعد اللى يجيب مية، ودكاترة تكشف علينا وتدينا الأدوية، وأكل وعصاير، حسيت إنى بجد وسط ناس في قلوبهم رحمة، النوبيين أخدونا روحنا مدينة كركر أجرنا بيت، وجابلونا أكل وشرب لبس، ناس كرماء بجد". هكذا وصفت آفاق إحساسها بالأمان في مصر.
آفاق في محل عملها
الحلم الضائع
تعيش آفاق حالة من اليأس والإحباط المتزايد بسبب الأحداث الأخيرة التي عاشتها في السودان، فلم تكن تعلم أن النجاة من الموت والحفاظ على الحياة سيكلفها التخلي عن حلم حياتها أن تكون طبيبة، كانت تدرس في السنة النهائية من كلية طب الأسنان جامعة الخرطوم في السودان، فبدلت الحرب حياتها من طبيبة إلى بائعة في محل بقالة.
تستكمل الفتاة حديثها عن حلم حياتها موضحة "كنت في السنة الأخيرة في الجامعة كلية طب الأسنان، كان رغبتى، لكن خلاص راح. الحرب دمرت حياتى، الجامعة اتضربت والأوراق والملفات بتاعتنا اتحرقت وضاعت، ومافيش أمل خلاص، نفسيًا تعبت اقترح عليا جارنا النوبى اشتغل في محل البقالة بتاعة فرحت، تعامل الناس هون عليا شوية لكن أنا حزينة من قلبي حسه خلاص كأنه نهاية حياتى".
آفاق مع والدتها في كركر بأسوان
الحنين للوطن لم يفارق الفتاة ولكن ما خلفته الحرب كان قاسيًا، حاسة كأن قطعة اشالت منى حاسة إنى سايبة روحى وماشية، حالاها ورايا، كأنى ماشية بجسد بلا روح، هذا آخر ما قالته آفاق في حوارها لـ"اليوم السابع".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة