تحل اليوم ذكرى رحيل أبو بكر الصديق رضى الله عنه وأول الخلفاء الراشدين ومحارب مانعى الزكاة ومن خرجت في عهد الغزوات الإسلامية تتبع خطى ما بدأه النبى محمد عليه الصلاة والسلام.
عُرف الخليفة الأول في التاريخ بأسماء كثيرة أشهرها أبو بكرٍ وَالصدِّيق، ويليهما في الشهرة عَتيق وعبد الله، وقيل: إنه عُرِف بهذه الأسماء أو الألقاب في الإسلام والجاهلية على السواء.
عُرِف بلقب الصدِّيق في الجاهلية وفقا لكتاب عباس محمود العقاد عبقرية الصديق ؛ لأنه كان يتولى أمر الدِّيات وينوب فيها عن قريش، فما تولاه من هذه الديات صدَّقته قريش فيه وقَبِلَته، وما تولاه غيره خَذَلَته وتردَّدَت في قبوله وإمضائه.
وعُرف بالعتيق لجمال وجهه، من العتاقة وهي الجودة في كل شيء، وقيل: بل من العتق، لأن أمه لم يكن يعيش لها ولد؛ فاستقبلت به الكعبةَ، وقالت: اللهم إن هذا عتيقُك من النار فَهَبه لي. فعاش فعرف باسم عتيق، وقيل غير ذلك: إنه أحد ثلاثة أبناء، هم عتيق ومُعتق ومُعَيتيق، سموا بذلك تفاؤلًا بالعيش والعتق من الموت.
وعرف كما قيل في بعض الروايات باسم عبد الكعبة في الجاهلية، ثم عبد الله في الإسلام.
وسُمي في الإسلام بالصديق؛ لأنه صدَّق النبي ﷺ في حديث الإسراء، وبالعتيق؛ لأنه عليه السلام بَشَّره بالعتق من النار.
ومن الجائز أنه عُرف بهذه الألقاب على مَحمَلها في الجاهلية ومحملها في الإسلام، ففي حياته وسيرته قبل الإسلام وبعده ما يُحقق هذه التسمية أو هذا التلقيب.
وُلد للسنة الثانية أو الثالثة من عام الفيل، فهو أصغر من النبي ﷺ بنحو سنتين، وهو عبد الله بن عثمان الذي عُرف باسم أبي قحافة، ويَلتَقي نسبه ونسب النبي ﷺ عند مُرَّة بن كَعبٍ، بعد ستة آباء، وكلا أبويه من بني تيم، وهم قومٌ اشتهر رجالهم بالدَّماثة والأدب، واشتهرت نساؤهم بالدَّل والحُظوة، وقيل إن بنات تيم أدل النساء وأحظاهن عند الأزواج.
وربما كان مرجع ذلك إلى طول عهد القبيلة بحياة المدينة وأشغالها، وأن اشتغالها بالتجارة كان يقوم على المودَّة وحسن المعاملة، ولا يقوم على بسطة النفوذ وصولة الوفر والغلبة، فبنو أمية مثلًا كانوا يتَّجرون وكان زعيمهم أبو سفيان يُرسل القوافل بين الحجاز والشام، ولكنها قوافل أشبه بالحملات والبعوث، معوَّلهم فيها على الوفر والوفرة، وليست كذلك تجارة أبي بكر وإخوانه من أبناء البُطون القرشية التي لها شَرف النسب في غير مكاثرة بالعَدَد والعُدَّة، ومغالبة بالصَّولة ودهاء القوة، كمغالبة الأمويين.
ومهما يكن من أثر المعاملة الودية وآداب الأسرة والمدنية في بني تيم، فهذه الآداب واضحة في أسرة الصديق رضي الله عنه أجمل وضوح، لم تُذكر لنا قط أسرة كانت في عصره على مودَّة أجمل من المودة التي اتصلت بينه وبين أبيه وأمه وأبنائه، مدى الحياة. وقد كان له ابن حارب في صفوف المشركين، وأوشك أن يكون بينه وبين أبيه قتال، ولكننا إذا تجاوزنا هذه الفَلتة من فلتات السن رَجعنا إلى أُبُوَّة لا عقوق فيها بعد اهتداء ذلك الابن إلى الإسلام، كما اهتدى إليه سائر ذَويه.
عاش أبو قحافة حتى رأى ابنه خليفةً يرفع صوتَه على أناس لم يكن في مكة أرفع منهم صوتًا وأعظم خطرًا، وكان مكفوف البصر على باب داره بمكة يومَ أقبل أبو بكر إليها مُعتمرًا بعد مبايعته بالخلافة، فقيل له: هذا ابنك؛ فنهض يَتَلقَّاه، ورآه ابنه يهُم بالنهوض فعجل نازلًا عن راحلته وهي واقفة قبل أن يُنيخها، وجعل يقول: يا أَبت لا تقم! ثم لاقاه والتزمه وقبَّل بين عينيه، ولم ينتظر وهو في نحو الستين أن يُنيخ راحلته لينزل منها، مخافة على أبيه من مشقة النهوض.