تحل اليوم ذكرى رحيل الصديق أبو بكر رضى الله أول الخلفاء الراشدين ومحارب مانعى الزكاة ومن خرجت في عهده الغزوات الإسلامية تتبع خطى ما بدأه النبى عليه الصلاة والسلام.
وكان أبو بكر الصديق يعيش بمكة في الحي الذي تعيش فيه خديجة بنت خويلد، ويعيش فيه التجار النابهون الذين تذهب تجارتهم في رحلتي الشتاء والصيف إلى الشام وإلى اليمن، ومقامه بهذا الحي هو الذي ربط بينه وبين محمد بروابط الألفة بعد أن تزوج محمد من خديجة وانتقل إلى دارها، وكان أبو بكر يصغر محمدًا بسنتين وأشهر، وأكبر الظن أن التقارب في السن والاشتباك في العمل والاتفاق في سكينة النفس ورضا الخلق، وفي الرغبة عما تزاول قريش من عادات وعقائد أكبر الظن أن هذا كله كان ذا أثر في مودة محمد وأبي بكر مودة يختلف الرواة إلى أي حد توثقت عراها قبل أن يبعث محمد رسولًا، فقد ذكر بعضهم أنها كانت وثيقة العرى قبل البعث، وأن توثق عراها ذو أثر في سبق أبي بكر إلى الإسلام، أما غير هؤلاء فيذكرون أن صلة الرجلين لم تتوثق إلا من بعد، وأن مودتهما الأولى كانت مودة جوار وتوافق في الميول ليس غير، ولعل أصحاب هذا الرأي يؤيدونه بما عُرف من حب محمد العزلة والانقطاع عن الناس سنوات طويلة قبل بعثته، فلما بعثه الله واختاره لرسالته ذكر أبا بكر ورجاحة عقله، فتحدث إليه ودعاه إلى الواحد الأحد؛ ولم يتردد أبو بكر أن أجاب داعي الله، ومن يومئذ توثقت الصلة بين الرجلين، ثم زادها صدق أبي بكر في الإيمان بمحمد ورسالته متانة وقوة، كانت عائشة تقول: "ما عقلت أبويَّ إلا وهما يدينان الدين، وما مر علينا يوم قط إلا ورسول الله يأتينا فيه بكرة وعشية" وفقا لما جاء في كتاب محمد حسين هيكل الصديق أبو بكر.
ومنذ اليوم الأول شارك أبو بكر محمدًا في الدعوة لدين الله، وكان إلف قومه إياه وحبهم الجلوس إليه والاستماع لحديثه، ذا أثر في استجابة المسلمين الأولين لهذه الدعوة، فقد تابع أبا بكر على الإسلام عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، كما أسلم من بعدهم، بدعوة أبي بكر، أبو عبيدة بن الجراح وكثيرون من أهل مكة.
وقد يعجب الإنسان كيف لا يتردد أبو بكر في قبول الدعوة إلى الإسلام أول ما وجهها محمد إليه، وكيف بلغ من عدم تردده أن يقول عنه رسول الله من بعد: "ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت عنده فيه كبوة، ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة، ما عكم حين ذكرته له وما تردد فيه".
وليس كل العجب أن محمدًا ذكر له التوحيد ودعاه إليه فاستجاب له، بل أكبر العجب أن محمدًا قص عليه حديث حراء والوحي الذي نزل عليه، فلم يتردد في تصديقه، وإنما يزيل عجبنا، أو يخفف منه، أن أبا بكر كان من حكماء مكة الذين يرون عبادة الأصنام حمقًا ومينًا، وأنه كان يعرف من أمر محمد وأمانته وصدقه ورجحان عقله ما لم يدع في نفسه موضعًا للريبة فيما قص عليه مما رأى وسمع، وبخاصة لأنه رأى في هذا الذي قصه الرسول عليه ما يتفق وموجب الحكمة وما لا يتردد العقل في تصديقه والأخذ به، على أن ما يزول من عجبنا لا يغير من تقديرنا جرأة أبي بكر في إقدامه ومجاوزته المعروف للناس في موقف دعا غيره ممن وجهت الدعوة إليهم للنظر والتردد والتماس الأناة والروية، وجرأة أبي بكر وإقدامه أجدر بالتقدير؛ لأنه كان تاجرًا تقتضيه تجارته الحساب لصلاته بالناس وعدم مواجهتهم بما يخالف مألوف آرائهم وعقائدهم خشية ما يجره ذلك على معاملاته من سيئ الأثر، فما أكثر الذين لا يؤمنون بالكثير من آراء الناس ويرونها مينًا باطلًا وحديث خرافة، ثم يكتمون ذلك أو يتظاهرون بنقيضه التماسًا للعافية، وجرًّا للمنفعة، وحرصًا على ما بينهم وبين الناس من تجارة، وأنت لا تجد هذا النفاق في سواد الناس وعامتهم ما تجده في الخاصة والمثقفين منهم، بل إنك لتجده فيمن نصبوا أنفسهم لزعامة الناس والإبانة لهم عن وجه الحق في الحياة، لا جرم، وقد كان موقف أبي بكر منذ اللحظة الأولى ما ذكره رسول الله، أن يكون موضع التقدير غاية التقدير، والإعجاب غاية الإعجاب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة