ـ شعبان عبدالرحيم وعبدالباسط حمودة من تلامذة «العسكرى».. ومحمد رشدى استعان بمواويله قبل غناء ملحمة أدهم الشرقاوى.
ـ الإسكندرانى بدأ مقرئا للقرآن واتجه للفن وأصبح عمدة الموال الشعبى بطريقته الخاصة فى تسريع إيقاع وزمن الموال.
فى عالم الموال المصرى فى الستينيات والسبعينيات لا يمكن أن تتناول سيرة التلميذ إلا بالحديث عن الأستاذ ولا بالكلام عن الأستاذ إلا بذكر سيرة تلميذه.
الأستاذ هنا هو العمدة الكبير أنور العسكرى، عمدة الموال الشعبى، فى مصر صاحب أكبر مدرسة للغناء والموال الشعبى تخرج منها الكثير من التلامذة وأشهرهم شعبان عبدالرحيم وعبدالباسط حمودة.
أما التلميذ الأكثر شهرة فى مدرسة الأستاذ فهو عبده الإسكندرانى، الذى كان العسكرى مثله الأعلى رغم أنه أصبح صاحب طريقة مميزة للغاية ومتفردة فى أداء الموال وصار منافسا لا يستهان به للأستاذ نفسه فى أفراح وليالى وسهرات أحياء القاهرة الشعبية من حلوان للوايلى وحتى إمبابة.
كان زمنا مغايرا لما نعيشه الآن حتى لو أطلقنا عليه «زمن الموال»، فالموال كان يحمل معانى وقيما حميدة تهدى وتعلم فن الحكمة والأخلاق والتهذيب والاحترام وأسلوب العتاب الرقيق والمحبة الخالصة والصداقة والعشرة والصديق الوفى والندل الخاين.
تراث ثرى وغنى بكل القيم التى نحن فى أشد الاحتياج إليها فى هذه الأيام وليت وزارة الثقافية تنظم ليالى وأمسيات لإعادة تراث هؤلاء الكبار على لسان مطربينا الجدد فى الأوبرا حتى نستعيد دور الفن الشعبى والموال فى مجتمعنا.
نبدأ بعمدة الموال الشعبى فى مصر الفنان والمطرب الشعبى أنور العسكرى، والذى يعتبره باحثو التراث من رواد الفن الشعبى المصرى، بدأ أنور الغناء فى فتره تجنيده فى البوليس المصرى فكان كلما صادف فرحا أومناسبة فى منطقة خدمته تطوع بالغناء مجانا. وتكررت هذه الحالة مرات عديدة، يدخل إلى الفرح ليغنى وهو يرتدى بدله الشرطة ولذلك أطلقوا عليه أنور العسكرى.
فى البداية كان العسكرى يقوم بتقليد واحد من مؤسسى فن الموال الشعبى فى مصر وهو الفنان الشعبى محمد عبدالجليل.
ينتمى أنور العسكرى إلى منطقة الدرب الأحمر وهو واحد من أحياء القاهره القديمة، وكان شرطيا فى فترة الستينيات ومنها حصل على شهره «العسكرى»، فى الوقت ذاته كان يمتلك محلا للكواء - مكوجى يعنى - كدخل إضافى يعنيه على أعباء الحياة والمعيشة.
فى بدايته، كان أنور العسكرى يرتجل الغناء البلدى بدون موسيقى وذاعت شهرته وبدأ صوته يتسلل إلى الوسط الفنى فى مصر، واستعان به المخرج المسرحى فايز حلاوة (1932 - 2002) ليغنى فى مسرحية (قهوه التوتة) عام 1966 من تأليف نجيب محفوظ وبطولة فايز حلاوة وتحية كاريوكا ومحمد حمدى وجمال إسماعيل وعبدالغنى قمر وبعدها اختاره مخرج آخر لغناء مقدمة مسلسل تليفزيونى نجح وقتها، ذكرته مصادر عديدة دون الإشارة إليه - فاشتهر العسكرى ودخل فى عصر إنتاج اسطوانات.
كما شارك أنور العسكرى فى أعمال سينمائية فى السبعينيات، فقد شارك بالغناء فى فيلم ابنتى والذئب عام 1977 بطولة حسن يوسف وشمس البارودى ونور الشريف ومحمود المليجى، وإخراج سيد طنطاوى.
وفيلم «رغبات ممنوعة» إنتاج عام 1972 بطولة شادية وميرفت أمين وحسين فهمى واخراج أشرف فهمى.
ومن أشهر أغانيه ومواويله كشفوا على جرحى، سبع ليالى الفرح، أمانه يا ليل، يا ابيض بلا كحل، يا دنيا عيب أختشى، سافر حبيبى، اميل على مين غير زندى،عيونك السود،يا معلم الصبر، غزاله مع الدلال، أن كان جرى منى ذنب سامحونى، ألفين صلاه على النبى، بعد الصلاه على النبى، ده ست سنين، ست اشهرو ست أيام، يا مصاحب الفكر، يوم الاحد، يوم الخميس، مشتاق يا حبايب، خدوك ياحلو منى، يا ترى بعد خللى مين راح هيحملنى، ما دايم غير المعروف، خطوة فى طريق الأمل، الأرزاق بيد الله، حاسب يا عم، أشكى لمين وحبل الوداد والحب كاس يا ناس.
المطرب الشعبى عبدالباسط حمودة أحد خريجى مدرسة أنور العسكرى يتحدث عن الأستاذ فيقول إن أنور العسكرى اختاره المطرب لكى يعمل معه فى فرقته، وتقاضى «ربع جنيه» كأول أجر له فى الأفراح، عندما اصطحبه الأول ليغنى معه فى أحد الأفراح الشعبية عام 1978.
وقال أيضا عبدالباسط ان الموسيقار بليغ حمدى، كان من عشاق الفن الشعبى، وقام بتلحين أكثر من أغنية لمطربين شعبيين مثل أنور العسكري، أحمد عدوية، وغيرهم.
وعبدالباسط حمودة من مواليد 5 يناير عام 1960، فى حى «الدرب الأحمر» بالقاهرة، لم يحصل على أى شهادات دراسية، إلا أن «الدنيا علمته»، كما يقول دائما، وبدأ مشواره بالعمل مع والده فى مدح النبي، وكان لنشأته على سماع الأغانى الشعبية المنبعثة من المقاهى والمحلات، تأثير فى موهبته، إذ حفظ العديد منها، ومن هنا كانت انطلاقته.
ويضيف عبدالباسط، إن مسيرته الفنية بدأت منذ 40 عاما، وأن الفنان أنور العسكرى كان له الفضل فى شهرته، حيث إنه أول من أحضره إلى شارع محمد على، وفى شارع أم الغلام خلف مسجد الإمام الحسين، كان هناك مقهى يحيى فيه ليالى شهر رمضان المطرب الشعبى أنور العسكرى.
أما التلميذ الثانى المطرب الشعبى الراحل شعبان عبدالرحيم كان يقول دائما عند سؤاله عن مثله الأعلى فى الغناء والموال انه أنور العسكرى، وشعبان عبدالرحيم -رحمه الله - (15 مارس 1957 - 3 ديسمبر 2019) ولد فى منطقه العسال بالشرابية باسم (قاسم)، ولكنه اختار لنفسه اسم (شعبان) فيما بعد كاسم فنى لأنه ولد فى شهر (شعبان) الهجرى. ولم يتلق هو الآخر أى تعليم على الإطلاق وعمل مكوجيا مع أبيه لفترة كبيرة، وكان يعمل ليلا فى الغناء فى الأفراح، تبناه المغنى الشعبى (أنور العسكرى) ودربه على فنون الغناء الشعبى ليحترفه ويتعرف على ملحنى الأغانى الشعبية الذين رحبوا بالتلحين له حيث أعجبوا بخامة صوته الملائمة للفن الشعبى.
أما المهندس طارق محمد رشدى فيقول: «إن فى الوقت الذى كان والده الفنان الكبير الراحل محمد رشدى، يشعر فيه والده بالضياع، جاءه اتصال من الإذاعة،ليقوم بغناء ملحمة أدهم الشرقاوى، بعدما أصر الموسيقى الكبير محمد حسن الشجاعى على أن يكون رشدى هو مطرب العمل لا أحد غيره، 87 موالا غناها مستندا على عكازه، بعد أن بذل قصارى جهده فى الإعداد لأدهم الشرقاوى، يحكى طارق: «راح سوق الكانتو فى العتبة وجاب أسطوانات لكل من غنوا الموال فى مصر، الحاجة زينب المنصورية وأنور العسكرى، وجاب فرقة محمد طه، كنا ساكنين فى جاردن سيتى قال لهم تعالوا سمعونى بتقولوا إيه فى الغنا كل اللى تعرفوه ومتخزن فى المواويل عايز أسمعه».
الآن نأتى الى سيرة التلميذ النجيب الذى تفوق على الأستاذ وأصبحت له مدرسة خاصة فى الموال الشعبى وهو عبد الإسكندرانى صاحب مدرسة التدرج الموسيقى فى الموال.
المفارقة هنا فى بداية عبده الإسكندرانى، فقد بدأ مقرئا للقرآن ثم اتجه للفن، وهذه حالة معروفة فى تاريخ الغناء الشعبى فهناك أساتذة كبار من خريجى الأزهر الشريف وحفظة القرآن اتجهوا للغناء والتلحين مثل الشيخ النقشبندى والشيخ سيد مكاوى وسيد درويش والشيخ إمام وغيرهم الكثيرين.
جذبته حياة الفن والغناء والسهر وتزوج من الراقصة سعاد أبوالسعود أرملة عازف الساكس سامى أبوالسعود شقيق الفنان حسن أبوالسعود.
اسمه الحقيقى هو عبدالرحمن على الشحات من من مواليد مدينة حلوان، وهناك مصادر أخرى تقول بأنه من مواليد حى الوايلى، أيا كان مولده فقد بدأ احتراف الغناء فى الأعراس والحفلات العامة فى الأحياء الشعبية وكان يقول إن حى إمبابة له الفضل الكبير فى صناعة «أسطورة عبده الإسكندرانى» وبعد شهور قليلة تقلد عمادة أو بالأدق عمودية - عمدة - الموال المصرى دون منازع وليرسم لجميع من بعده خطا فنيا ينسب لاسمه.
ظهرعبده الأسكندرانى ليكون مختلفا عن الجميع، وكان قد اتخذ أنور العسكرى أحد أعمدة الموال المصرى طريقا ومثلا أعلى له، ليتمكن من تعلم واكتساب خبرة وصنعة مواله، ولعل أحد أسباب اختياره هو التشابه الواضح فى خامة صوت عبده الإسكندرانى وأنور العسكرى، ليذهب إلى ماهو أبعد من ذلك، فنجده متأثرا فى فترة من حياته بأستاذ أستاذه محمد عبدالجليل أسطورة الموال فى خمسينيات القرن الماضى
يا اللى انت قاضى وعدلك ماضى فى الحكام
حكم الزمان مر وأنا صابر على الأحكام
أنا اللى طيش الشباب خد عقلى ولجانى
وطاوعت مشى الشيطان ضللنى وسهانى
وينسب لعبده إنه صاحب الفضل فى «تسريع» إيقاع وزمن الموال، ليصنع مزيجا ساحرا بصوته و«عربه» القوية الساحرة وذلك الإيقاع السريع الكاسر لجمود إيقاعات الموال التقليدية البطيئة التى تعطى للمطرب مساحات صوتية يتحرك فيها بحريته معتمدا على صوته وبعض الزخارف الموسيقية، إلا أنك مع عبده الإسكندرانى تجد نفسك مبهورا بالكلمات متأثرا بجمال صوته لاهثا وراء الإيقاع المتصاعد المعجون بزخارف وتقاسيم الأوكورديون والناى سواء فى «المردات» أو الفواصل:
أنا بعت اللى ما يتباعوش ولا يتعوضوش تانى
وانا اللى اشترتهم بعمرى باعونى مجانى
رحت اشتكى للهوا هاننى وأشجانى
حكم عليا الهوا وأنا اللى بقيت انا الجانى
ورمانى فى السجن لم زارنى حد ولا جانى
ودخلت سجن الغرام
والجانى سجانى
سجان بلا قلب
خد من عمرى ما ادانى
أنا قلت ليه يا سجان الغرام ترمينى وتنسانى
من بعد ما قولت لى إنك بتهوانى
عشتمنى بالحلق
عشتمنى بالحلق
خرمت أنا ودانى
لا الحلق جانى ولا كلام الناس كفانى
المستمع لمواويل عبده الإسكندرانى يشعر وكأنه جالس مع جده أو عجوز حكيم يتلو عليه الحكمة مضفرة بالموسيقى، حكمة شعبية صنعت أسطورة موال الحكمة لدى عبده بمعان شعبية واضحة تحوى الرجولة والشرف والأصول والمعاناة فى ظل ضيق الحال ولوعة القلبو ولعل هذا السبب هو ما دفع العديد بالاقتداء بعبده وإعادة إنتاج كلمات مواويله التى انتشرت وظلت حاضرة بقوة فى عالم الموال.
فيكفيك أن تعرف أن معظم المواويل الافتتاحية للأغانى الشعبية ماهى إلا أجزاء من مواويل طويلة لعبده تمت إعادة إنتاجها سواء بتوزيعات جديدة أو بأسلوب مختلف تماما مثل موال «عصفور ضعيف الجناح» الأشهر على الإطلاق - ما هو إلا جزء صغير من موال «سجان الغرام» واحد من المواويل الطويلة التى صنعت شهرة عبده الإسكندرانى رحمه الله.
تألق وذاع صيته بشكل لافت بعد نجاح موال «سجان الغرام»، وكان أحد نجوم الموال الشعبى فى فترة التسعينيات، وتعلم كثير من المطربين الشعبيين من أدائه، ومشاركته فى السينما اقتصرت على فيلم واحد فقط بالغناء وهو فيلم «كفر الطماعين» إنتاج عام 1989 بطولة يونس شلبى سماح أنور محمد رضا نجوى فؤاد.
وقد لا يعلم الكثيرون أن الفنان محمد سعد حاول تقليده فى فيلمه كتكوت عندما غنى موال «كتكوت ضعيف الجناج والدنيا غدرت بيه»، وهى عبارة عن مقطع حقيقى من أغنية لعبده الإسكندرانى وهى سجان الغرام فى الجزء الثانى منها، وقال فيها الإسكندرانى «عصفور ضعيف الجناح».
وفى أحد حواراته الصحفية قال الفنان بهاء سلطان إن شقيقه الأكبر أبلغه أن صوته يشبه إلى حد كبير صوت المطرب الشعبى عبده الإسكندرانى.
والفنان الشعبى أحمد عدوية فى لقاء تليفزيونى مع الاعلامى عمرو الليثى صرح بأنه يجب دائما الاستماع إلى غناء ومووايل عبده الإسكندرانى.
أما سبب تسميته بالإسكندرانى أنصيته قد ذاع فى الإسكندرية بشكل ملفت، واعتبره أهل الإسكندرية بأنه واحد منهم وأنه أحد أهم مطربى الإسكندرية على الرغم من أن المعلومات المتوفرة أنه من مواليد مدينة حلوان أوحى الوايلى، وأطلق عليه أهل الاسكندرية عبده الإسكندرانى فلازمه هذا اللقب حتى رحيله.
يا مدعى الكِبر هو الكِبر علا مين؟!
قبلك.. هلك ناس كانوا علما وعلاّمين
وأقوى منك كتير ياما اتخلق عالمين
الكِبر عِلــّة.. ومين عايش بـعِلــّة مين؟!
جاهل وناقصك علام والجاهل يـعلم مين؟!
كبرك على الناس.. مرض حساس
والطب موجود لكن حق الدوا على مين؟
ويحكى الراوى: «يعتبر عبده من المغنين المعروفين فى عالم الأغنية الشعبية، كما يغنى فى الملاهى الليلية، من أشهر أغنياته: «الكيف»، « سامحنى يابا»، «عجيبة ياناس»، «ولدى»، «اليتم»، و«أبويا فين».
ولأن «عبده» كان ابن بلد حقيقى فقد وجد فى «سكة» عمنا أنور العسكرى ميدانا مناسبا لصوته الرجولى، وقد فاجأته بأن أسمعته شريط نادر لعمنا محمد عبدالجليل، الذى كان يغنى أشعار عمنا عبده الدمرداش، وكنت قد حصلت على هذا الشريط بصعوبة من ابنه المطرب الشعبى «أشرف عبدالجليل» الذى نسخه عن أسطوانة لوالده، وكان عبده الإسكندرانى يعلم - كغيره من أرباب هذا الفن - أن أنور العسكرى قد بدأ مقلدا لمحمد عبدالجليل، فتشبث بالشريط ووعدنى بإعادته لكنى سافرت، وفى أول زيارة لى لمصر وجدته قد طرح ألبوما جديدا له(سلالم السجن) استمده من نفس الشريط ويتعمد تقليد محمد عبدالجليل فى الجزء: أنا بعت له دمع عينى باحسبه زعلان، قال أنا محكوم ولابيديش.
تراث من الغناء الشعبى والمووايل تركها الفنان عبده الإسكندرانى ما زال البعض يتداولها دون أن تعرف الأجيال الجديدة صاحبها الأصلى الذى توفى فى عام 2008