حلقت طائرة الرئيس جمال عبدالناصر فى سماء الخرطوم، استعدادا لهبوطها فى المطار يوم 29 أغسطس، مثل هذا اليوم، 1967، لحضور القمة العربية الأولى بعد نكسة 5 يونيو، لكن الطائرة ظلت تحلق فى السماء لتتأخر ربع الساعة عن موعد هبوطها، حسبما يذكر عبدالمجيد فريد، أمين عام رئاسة الجمهورية، فى كتابه «من محاضر اجتماعات عبدالناصر العربية والدولية 1967-1970».
كانت الأوضاع العربية مأزومة بفعل الهزيمة، وكان رؤساء وملوك الدول العربية على موعد مع هذه القمة باستثناءات قليلة، أبرزها اعتذار الرئيس الجزائرى هوارى بومدين، وإنابته وزير الخارجية عبدالعزيز بوتفليقة، وكان عبدالمجيد فريد على رأس بعثة سياسية وإدارية، سافرت إلى الخرطوم قبل بدء المؤتمر بأربعة أيام للإشراف على إعداده، ويذكر شهادته عما جرى.
يعترف «فريد» بأنه كان متخوفا من نتائج التجربة التى سيخوضها عبدالناصر، يقول: «كنت أخشى عليه من صدمة أخرى قد تودى به، لكن قلقى بدأ يتلاشى شيئا فشيئا بعد وصولى إلى العاصمة السودانية، وحرصت أول على القيام بجولة فى شوارع الخرطوم من أجل معرفة أحاسيس الشعب السودانى فى تلك اللحظات، وما رأيته فى شوارع الخرطوم أثلج قلبى بالفعل، كانت شعارات الترحيب بعبدالناصر تغطى الجدران والنوافذ والأبواب حتى شملت جدران السفارة الأمريكية فى الخرطوم، لقد شعرت بالاطمئنان نتيجة هذه الجولة، وأبرقت بإحساسى هذا إلى القاهرة».
يكشف «فريد» أنه كان مع مجموعة من الرسميين فى انتظار عبدالناصر بالمطار، وفجأة تقدم منه الوزير السودانى المشرف على استقبال الوفود ثم قال: إن طائرة الرئيس عبدالناصر تحلق الآن فوق المطار، فهل يمكن تأجيل هبوطها كى تهبط طائرة الملك فيصل أولا؟.
يذكر «فريد»: «استغربت هذا الطلب وسألت الوزير السودانى، ومتى تصل طائرة الملك فيصل؟ قال بشىء من الارتباك: بعد عشر دقائق، قلت: ما هو السبب فى اتخاذ هذا الإجراء الغريب؟ إنك تقول إن طائرة الرئيس عبدالناصر تحلق الآن فوق المطار، وطائرة الملك فيصل بحاجة إلى عشر دقائق للوصول، أنا مش فاهم؟ رد الوزير السودانى: أرجو أن تقدر الموقف لو أننا سمحنا لطائرة عبدالناصر بالهبوط الآن لذهبت الجماهير خلفه وخلت الشوارع تماما، وبهذا لن نجد أحدا فى استقبال الملك فيصل، ولو حدث هذا قد يتأثر الملك وقد ينعكس تأثره على إمكانيات نجاح المؤتمر».
يؤكد «فريد»: «اقتنعت بمنطق الوزير السودانى، ووافقت على تأجيل هبوط طائرة عبدالناصر متحملا كامل المسؤولية، وعندما شرحت الأمر لعبدالناصر ونحن فى طريقنا من المطار إلى دار الضيافة بالخرطوم باقتضاب، ابتسم وقال لى: الآن عرفت لماذا حلقت طائرتى ربع الساعة فوق مطار الخرطوم قبل أن يؤذن لها بالهبوط».
يصف «فريد» لحظة نزول عبدالناصر من طائرته قائلا: «كانت تاريخية لم أشهد لها مثيلا، لقد انهارت تماما كل الترتيبات التى قضت لجنة الاستقبال أياما فى إعدادها، وسقطت كل الحواجز التى أقامتها أجهزة الأمن، اقتحمت الجماهير أرض المطار وضربت نطاقا بشريا حول عبدالناصر، وتعالت الهتافات بحياة البطل وبحياة العروبة وبالثأر من أمريكا وإسرائيل».
يتذكر محمود رياض، وزير خارجية مصر وقتئذ وأمين عام الجامعة العربية فيما بعد، فى الجزء الأول من مذكراته: «بمجرد أن هبطت طائرة عبدالناصر على أرض المطار، اقتحمت الجماهير السودانية كل الحواجز وتخطوا رجال الأمن وهم يهتفون بحياة عبدالناصر، مطالبين بالثأر من إسرائيل وتحرير الأرض، وكنت أستقل سيارة خلف عبدالناصر، وخيل لى أن سكان الخرطوم خرجوا جميعا لاستقباله، وسمعت من أحد الوزراء السودانيين أن الخرطوم لم تشهد فى تاريخها من قبل مثل هذا الطوفان البشرى الضخم الملتف حول زعيم لم ينحن للهزيمة».
يذكر الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى كتابه «الانفجار»: «كان هذا الاستقبال هو حدث المؤتمر، وهو حدث العالم العربى وقتها، كما أنه الحدث الإعلامى الأول فى العالم، وكانت صور الاستقبال هى الصفحة الأولى فى كل جرائد أوروبا وأمريكا».
يقول محمود رياض: «أعتقد أن هذه أول مرة فى التاريخ يتم فيها استقبال قائد مهزوم استقبال الفاتحين»، وعبرت عن ذلك مجلة النيوزويك الأمريكية، حيث وضعت غلافها بصورة لعبدالناصر وسط موكب الجماهير الهادر بتعليق: «أهلا أيها المهزوم».
اصطحبت الجماهير موكب «عبدالناصر» حتى الفندق الذى نزل فيه، ولما لحقه موكب «فيصل» هتفت الجماهير: «وراء جمال يا فيصل»، وبدأت وقائع المؤتمر وكان على أجندته قضايا مهمة ومؤثرة، أبرزها تقديم الدعم المادى لدول المواجهة وفى مقدمتها مصر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة