تركوا منازلهم وقراهم وفارقوا أسرهم لكن لم يكن قرارهم أو اختيارهم، فإما خاضعين لسلطان المرض أو قهرا بفرمان الأهل، وعانوا هجرة المقربين وجفاء المحبين، أنهم نزلاء مستشفى الخانكة للصحة النفسية الذين أمضوا بداخلها سنوات عديدة كانوا يأملون خلالها بالعودة إلى ديارهم وأسرهم أو على الأقل زيارة من المحبين، ولكن ظلت هذه الأحلام أمانى فقط لم تتحق سواء فى حياتهم أو حتى بعد وفاتهم فلم يجدوا ما يشفق لحالهم ويطلب رفاتهم لتدفن فى مقابر الأسرة، وينتهى بهم الحال إلى الدفن فى مقابر الصدقة.
هنا فى مقابر الصدقة التابعة لـ "مستشفى الخانكة للصحة النفسية"، عشرات من القصص التى يمكن أن تروى وتهتز لها القلوب عن نزلاء هذه المقابر الذين عانوا قطيعة الأرحام من الأهل خلال حياتهم، وغلظة القلب بعد وفاتهم فلم يجدوا من يطلب رفاتهم لدفنها فى مقابرهم وسط السابقين من عائلتهم هربا من الوصمة المجتمعية التى قد تلاحق المريض النفسى وأسرته من المحيطين بهم، فتولت المستشفى هذه المهمة بعد استخراج تصاريح الدفن عن طريق الأجهزة المختصة.
على أطراف مستشفى الخانكة تقع غرفتين متقابليتن الأولى تحتوى على ثلاجة قديمة لحفظ الموتى، والأخرى المقابلة لها تضم ثلاجة حديثة فى منتصفها تتواجد المنضدة الرخامية ويعلوها صنبور لغسل المتوفين وتكفينهم استعدادا لتشييعهم إلى مثواهم الأخير فى المقابر التى أعددتها مستشفى الخانكة لهذا الغرض وتحمل اسمها.
مقابر الصدقة تبعد مسيرة الساعة عن المستشفى وتحمل اسم "الخانكة" وتبلغ مساحتها 500 متر تقريبا وتحتوى على 14 مدفنا، وتم انشائها بحسب بعض العاملين منذ أكثر من 50 عاما.
ويقول أحمد رأفت يوسف مشرف التمريض بمستشفى الخانكة: "هنا فى المستشفى لدينا العديد من المرضى تراوحت إقامتهم من 20 إلى خمسين عاما "بعضهم تأتى لهم زيارات والأغلبية منهم يعانون من قطيعة الأهل خوفا وهربا من الوصمة المجتمعية التى قد تلاحقهم فى حال معرفة المحيطين بأن الأسرة لديها نزيل فى المصحات النفسية، لذلك عند وفاتهم يتم رفض الحضور لاستلام الجثث لدفنها فى مقابر العائلة، فتعمل المستشفى على إنجاز هذه المهمة على أكمل وجه وهو ما يعبر عنه بقوله: "فيه مرضى منهم بيتوفوا وبعد الوفاة المستشفى بتتكفل بهم فى مقابر صدقة تابعة للمستشفى علشان المريض هايروح فين ملهوش أهل يسألوا عليه".
يبدأ النشاط اليومى للمرضى داخل المستشفى فى الثامنة بوجبة الأفطار ثم يتم توزيع الأنشطة على ساعات اليوم سواء بتناول باقى الوجبات الغذائية "الغداء والعشاء " بالتزامن مع العلاج وله أوقات محددة والتريض التى تم استبدالها بـ "جلسات سمر ولعب الطاولة والدومينو" مع تشغيل مبردات بسبب ارتفاع درجات الحرارة ومشاهدة التلفاز وانتهاء بالنوم فى الـ 10 مساء.
وقال عم "ب" الذى يعد من أقدم نزلاء الخانكة حيث أمضى بها 21 عاما: "حضرت إلى المستشفى بسبب ظرف ما وكنت أعمل ترزى حريمى وبعد إصابتى بمرض نفسى تحولت إلى نزيل بمستشفى الخانكة، وخلال هذه المدة الطويلة لم يتم زيارتى من جانب أسرتى وبعد التعافى رفضوا أيضا عودتى إليهم مبررا ذلك بقوله عندنا فى الأرياف المرض النفسى عيبة، معبرا عن شوقه لرؤيتهم بقوله: "أنا كان نفسى يزورونى أفضل من الأموال التى يرسلونها".
وبجمل غير واضحة وصوت ضعيف لكبر السن قال أحد النزلاء: "أنا فى الخانكة منذ 25 عاما وخلال مدة إقامتى لم يتم زياتى من أقاربى وخلال هذه السنوات كنت اتطلع باستمرار لزيارة أو سؤال من جانبهم عنى ولكنهم للأسف لم يأتوا ولا يعلمون ببقائى حيا أو أصبحت ضمن الموتى بسبب خوفهم منى لأننى نزيل فى "الخانكة".
وتابع: "أنا بتمنى العودة للعيش وسط أهلى والعودة لمنزلى أعيش وأموت وسط أهلى لكنهم يرفضون ذلك".
15 عاما هى المدة التى مضت على عم "ص" داخل مستشفى الخانكة الذى اشتهر بالهدوء الشديد وابتسامته برغم ملامح الحزن الظاهرة على وجهه بسبب عدم زيارته من جانب أسرته، والذى بدأ حديثه معنا بسرد برنامجه اليومى منذ الاستيقاظ مبكرا فى الثامنة صباحا انتهاء بخلوده إلى نوم ليلا، ولم يغفل ذكر استبدال ساعة التريض بجلسات النزلاء مع بعضهم مع تشغيل المبردات بسبب ارتفاع درجات الحرارة.
وقال: "خلال مدة بقائى فى المستشفى تعرفت على العديد من الأصدقاء الذين يعانوا أيضا من مقاطعة أسرهم لهم فصرنا عائلة واحدة وأسرة تجمعنا الألفة والمحبة وبعد وفاتهم علمت بأنهم دفنوا فى مقابر المستشفى بسبب رفض أسرهم استلامهم جثثهم لذلك لا أخشى بأن يتم تركى بعد وفاتى لأن المستشفى سوف تتولى ذلك أسوة بما حدث مع زملائى ولكننى كنت أتمنى أن يتم ذلك بمعرفة أهلى.
"عم رضوان" رجل ستينى العمر تخبر ملامح جسده بأنه كان يتمتع ببنية قوية لولا المشيب الذى غزا رأسه، ومعاناته من اعتلال فى قدمه نتيجة حادث تعرض له منذ سنوات، وهو المسئول عن غرفة حفظ الموتى، يكفى أن يأتى هذا الاسم وسط العاملين بالمستشفى حتى تبدأ معها المشاعر المتبينة ما بين الضحك والانقباض حتى أن أغلب العاملين بها لا يحتفظ برقمه على هاتفه، ولكنه يتمتع بحب واحترام العاملين بالمستشفى بسبب روحه المرحة التى تختلف وتتعارض مع طبيعة عمله بغسل المتوفين ودفنهم.
ويقول عم رضوان: "أعمل فى مستشفى الخانكة منذ سنوات عديدة فى غسل الموتى وتكفينهم ثم تولى دفنهم فى المقابر التابعة للمستشفى وذلك بعد استيفاء الإجراءت القانونية والحصول على التصاريح اللازمة لذلك من الأجهزة المختصة".
وأضاف عم رضوان: "أحببت ذلك العمل منذ الصغر فكنت منذ طفولتى مبهورا بعالم الموتى وتجهيزات ما بعد الوفاة وكنت حريصا على مشاهدتها ومتابعة خطواتها بكل دقة حتى حفظتها وأحببت القيام بها، وهو ما آثار دهشة أسرتى وقتها لتعلقى الشديد بذلك العمل الذى لم يسبقنى إليه أحد من أسرتى.
وتابع عم رضوان شارحا خطوات عمله: "بعد وفاة أحد النزلاء يتم إبلاغ إدارة المستشفى التى تعمل على التواصل مع الأسر لاستلامهم ذويهم وغالبا ما ترفض هذه الأسر الحضور للمستشفى لاستلام جثث ذويهم فيتم تكليفى بالقيام بالتجهيزات اللازمة للدفن فى مقابر المستشفى المعدة لذلك الغرض بعد استيفاء كل الإجراءت القانونية والحصول على التصاريح اللازمة من الأجهزة المختصة.
وقال عم رضوان خلال وجودى فى مستشفى الخانكة كنت شاهدا على العديد من وفيات المرضى، الذين رفض أسرهم استلامهم ولكن المستشفى كانت ترفض تركهم وتصر على إكرامهم بعد وافتهم كما كان يحدث خلال حياتهم مؤكدا ذلك بقوله: "المستشفى بترعى النزلاء أحياء وأموات اللى الأهل ما بتعملهوش".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة