بحثت عنه فى تونس
طاف الشاعر بيرم التونسى على تجار الفونوغراف بشوارع تونس، يسألهم عن أعمال الشيخ سيد درويش، فلم يجدها، وتعجب من عدم رواجها، ففهم أن الشيخ الدرويش عند الجماهير مغن كبقية المغنيين، وأدواره كسائر الأدوار يتلهى بها الناس برهة من الزمن ثم ينسوها إذا ظهر غيرها من الأغانى والألحان.
هاجمته ورحب بي
يقدم بيرم فى مقاله "سيد درويش" وجبة معرفية ثرية عن سيد درويش باعتباره فنانا استثنائيا كون معه ثنائيا نادرا فى تاريخ الفن العربى، ويبدأ مقاله بقوله:
3 أيام بلا طعام ولا شراب
يعترف بيرم: "فى تلك الليلة لم أفارقه إلا فى ظهر اليوم الثانى لنتقابل بعد ساعتين من هذا الفراق، ولله طبائع الإسكندريين وشمائلهم وأخلاقهم، فيهم الشراسة مع الاعتراف بالحق، وفيهم القوة والبطش مع التواضع والإغضاء، لقد كان معظم حديث السيد عما لاقه من المحن والبؤس، قال لى من أول الحديث ولم يمض على تعارفنا ساعات: هل مكثت فى حياتك ثلاثة أيام على الأرض بلا طعام ولا شراب "وضحك ضحكة رزينة" وقال: والله فعلتها، وهل تعلم أننى كنت أغنى فى قهوة حقيرة على شاطئ وترعة المحمودية حتى يستمع لى بحارة المراكب القادمة من الصعيد، ورشيد، ودمياط، السهرة والقهوة والسماع كل هذا بعشرين فضة "خمسة وعشرين سنتيما".
عصابة الشوام مع الريحاني
جاء الحديث عن اتهام بيرم للسيد بالسرقة، فرد سيد عليه قائلا: "هذا جوق الريحانى ولا أخالك تجهل أنه عبارة عن عصابة شوام، تجمع عشرات الألوف من الجنيهات من جيوب المصريين بأبسط الوسائل، ولا أخالك تجهل أن فى مدينتنا الإسكندرية طائفة من الأناشيد هى فى ذاتها ثروة فنية لو وضعت فى محلها، تسمع الفقهاء الذين يشيعون الجنازة ينشدون البردة أمام الميت من لحن "السيكة" أو "الصبا" بنغمة مفرحة لا تتفق مع هيبة الجنازة، وتعرف أن العوالم "وهن المنشدات فى حفلات الزفاف" يشيعن العروسين إلى حجرتهما بلحن يشم منه التهكم والتمسخر، أكثر من أن يسمع منه الفرح والابتهاج".
الكون كله لحن عند سيد
وانتهى الشيخ سيد من توضيحه وتفنيده لاتهامات بيرم له بسرقة الألحان، ويعلق بيرم فى مقاله: "أتيحت لى الفرصة لدراسة هذا العبقرى الكبير، فقد كان الكون كله عند السيد لحنا يؤلفه بما فيه من ضجة، وهدير، وتغريد، وبكاء، وضحك، ووعد، وكانت أذنه دليله الخرتيت الذى يدله على حقائق الأمور وبواطنها، يستمع لكل صوت ويفسره أصدق تفسير، ويصغى لحديث محدثه ومن نبرات صوته يفهم مقصده وحالته، وما يخفيه، وما يعلنه، يسمع وسوسة الأساور فى معصم الحسناء، ويترجمها إلى لغة اللسان، ويسمع قطرة الماء فى الحوض فيبين عما فيها من بيان".حول إنذار المحكمة لأغنية
وينتقل بيرم إلى أول حب فى حياة الشيخ وتأثيره الفنى عليه، قائلا: "كان فؤاد الشيخ سيد مرتعا خصبا للحب، بل أتونا حارا للحب المخلوق لأجله كل فنان، ويروى حادثة الحب الأول فيقول: دعيت للغناء فى عرس وأنا بالملابس العربية، واعتليت التخت فإذا بى قريب من "بلكون" يجلس فيه بعض السيدات والأولاد، فخرق أذنى صوت امرأة يقول: دول ياختى جايبين لنا فقى الليلة ولا الداهية إيه؟ فما أتممت الدور الأول وكان: "يا اللى قوامك يعجبنى" حتى جاءنى طلب صريح بالمقابلة داخل الحريم، وكانت الداعية غانية أهلكت الكثيرين من العمد والتجار والموسورين فى مصر بما لها من جمال، ودهاء، وقوة جاذبة، وحادثة هذا الحب مشهورة".
بدر مكتمل
يذكر بيرم: "هذه بعض أوصاف هذا الفنان العظيم، صاحب النفس المرحة اللاعبة والذوق الرفيع، أما فنه وموسيقاه فلا نعرف أحدا تقدمه فيما ابتكر، ولم يظهر تدريجيا كغيره من أصحاب المواهب، وإنما سطع على الناس بدرا كاملا يبهر الأنظار، وكان أول إنتاجه الأدوار والتواشيح والطقاطيق كغيره من الملحنين، فلما احتاجت المسارح للموسيقى وجدت فى السيد منبعا فياضا أمدها بكل حاجتها، ولم تسجل له الأسطوانة من ألحانه المسرحية إلا القليل، كافتتاح رواية "العشرة الطيبة" المعروف بمطلعه: "على قد الليل ما يطول/ مسترضى بسهرى ونوحى".
تلاميذ سيد
يضيف بيرم: "وقد أصبحت الفئة القليلة التى يخصها الشيخ سيد بصداقته ويختارها لمجلسه، أصبحت وكل واحد منها لحن يشار إليه بالبنان اليوم، كالأساتذة زكريا أحمد ومحمد القصبجى، وإبراهيم فوزى وغيرهم، ومحمد عبدالوهاب يفتخر بأنه يقتفى أثر أستاذه الشيخ ويتتبع خطواته، ويعترف هو وأقرانه من الملحنين أنهم لا يزالون فى ساحل هذه المحيط العظيم، وقلت إننى كنت أمام رجل اتهمه بالسرقة وهو يقيم أدلته التى بررت عمله فى بساطة، ولكنه وقد انصرف عن الريحانى وغيره، وبدأ يلحن لنفسه، قد رأى نفسه فى ميدانه الذى يحلو له الركوض فيه، والذى يسمح له بإظهار قوته الجبارة".
انتقام سيد درويش
ويعطى بيرم مثلا بالقوة الموسيقية الجبارة للشيخ سيد قائلا: "كانت الرواية التى افتتح بها فرقته "شهر زاد" وكان على أن أنظم له خمسة عشر لحنا فى مواقفه المختلفة، ولا يتصور غيرى وغيره أننا اسكندريان لكل منا المشاكسة والعناد وما يخيف الآخر، ويجعله يحسب حساب صاحبه، وأشعر أن السيد رد على أبلغ رد فى ألحانه لهذه الراوية، بل أشعر أنه انتقم لنفسه أبلغ انتقام وأدب من اتهمه أحسن تأديب بدون أن يحتاج إلى جريدة وقلم، ويعلم الله أن الوقت الذى قضيته فى العمل معه كان عبارة عن جِلاد ونزال، فلم أقدم له من الأوزان إلا كل غريب مستعصى لم يركب عليه لحن من قبل، وكنت أنظم اللحن الواحد فى عدة أيام، بينما الزجل العادى لايكلفنى إلا ساعات قليلة وكان هو من جهته يقابلنى بالمثل، فلا يرضى من اللحن إلا بعد أن يستعد له فى أسعد ساعات صفائه، ويعود عليه بالتنقيح والتغيير، ثم يعلنه ويسجله بالنوتة".
تجربة "شهرزاد
يؤكد بيرم: "كانت روايته "شهر زاد" مثلا بديعا للموسيقى الكلاسيكية التى لم تطرق الأذن الشرقية، ولذلك لم تلتقطها أسماع العامة فى الشوارع وتغنيها كغيرها من الألحان الخفيفة الشائعة، إلا أنها تغنى فى الحفلات الراقية بواسطة الهواة الذين يجيدونها، فمنها اللحن الوطنى الذى ينشده جندى مصرى أمام الملكة حين سألته من أى بلاد هو؟: "أنا مصرى كريم العنصرين/ بنيت المجد بنيت الأهرامين/ جدودى أنشأوا العلم العجيب/ ومجرى النيل فى الوادى الخصيب/ لهم فى الدنيا آلاف السنين/ ويفنى الكون وهم موجودين/ وأقول لك عللى خلانى / أفوت أهلى وأوطانى / حبيب أوهبت له روحى / لغيره لا أميل تاني".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة