حينما يعشق الأعمى شيء، يُخلص له إخلاص محتسب، فعندما أخلص للعلم، جاء للدنيا "برايل"، وعندما أخلص للأدب، أمتعنا به طه حسين، وحين أخلص للدين، فقهنا فيه الإمام الترمذي، وأول ما أخلص للشعر، أغدق علينا منه أبو العلاء المعري وبشار بن برد، فكيف يكون إخلاصهم حينما تتعلق قلوبهم بكرة القدم؟!
الأعمى يلمح الفرح والحزن في تضاريس الصوت، تلمع حبات العرق على جبينه من الخجل، رغم أنه لا يرى ما يخجل منه، لكنه يثق بأن القلب أصدق من العين، وبرهانه في ذلك أن مئات المكفوفين، حولوا عتمتهم إلى نور، وفقدهم إلى إعجاز تتحاكى عنه الأمم، أما أشد ما يزعجه، أن يكون يُتمه معرضا للفرجة والفضول والشفقة.
علمنا توفيق الحكيم، أن نأخذ الحكمة من الأعمى، فهو لا يضع قدمه على الأرض حتى يستوثق من موضعه بعصاه، هذا يقودنا إلى بعض مجانين الكرة من المكفوفين، هؤلاء الذين علموني أن الأعمى لا يعطى الحكمة فقط، لكنه يعطي الوفاء والتضحية أيضًا، وكيف يكون الانسان مجنونا بالكرة وسحرها حتى لو لم يراها بعينه، وأن كرة القدم هي كل ما يلمسنا، وليس كل ما نراه.
عم صلاح.. مجنون بتعافي بهوس المدرجات
في ميت عقبة، فرض "العمى" نفسه على "عم صلاح"، فانطلق من ظلمته صديقا يواسى به نفسه من يُتم البصر، هذا الحرمان، بدلا من أن يكون مدعاة للشفقة ومبررا للانطواء والعزلة، اختار هذا الزملكاوي الوفي، أن يعوضه بحب الزمالك، ومع محبوبه، رأى العالم بطريقته.
"عم صلاح" -ومن مثله- لا يفضلون قضاء أوقاتهم بين الجدران الصامتة، رغم أن الصمت كعادته يصعب تفسيره، قد يكون الاحترام والإهانة والرضا والسخط واللامبالاة وعمق الاهتمام في نفس الوقت، لكن هذا المشجع تغويه نواقيس الطبول، وأصوات الجماهير، ودقات الدفوف، وصيحات زملائه في الهوى والغرام، فيعيش مباريات الزمالك بكل حواسه بالمدرجات، يتابع الأحداث بصوت المذيع عبر أثير الراديو، بينما يعيشها بكل كيانه على كراسي المتفرجين، أو مقاعد العشاق كما يحلو لأصحابها تسميتها.
كثيرون أقنعوا "عم صلاح" بأن يكف عن الذهاب للإستاد خلف الزمالك، ووعدوه بتوفير أجواء مثالية لمتابعة المباراة بعيدا عن الزحام والصخب وإرهاق الملاعب التي يعاني منها الأصحاء، لكنهم نسوا أن العاشق مثل المدمن، لا يمكنه الشفاء من دائه أو الهروب منه، ودواء هذا المشجع أن يضعوه على كرسي المشجع، ويجعلوا الجماهير حوله، واللاعبين أمامه طوال اليوم، هكذا يتعافى من فجيعته، ويتغلب على عتمة البصر بالنور، الذي يأتي من الانتماء للزمالك.
"عم صلاح" لم يأت لهذه المدرجات بصفته مشجعا، هو لا يقول إن الزمالك سيلعب اليوم، بل يقول "سنلعب اليوم"، الحب جعله يعتبر نفسه واحد من اللاعبين، يھمس بصلوات ولعنات، يبكي حزنا ثم يتحول فى لحظات ليمزق حنجرته، يعانق المجهول بجانبه، لأنه صرخ معلنا هدفا، هو يرى الأهداف فى صيحات المحبين، يتخيلها، يداعبها، يرسمها، يشاهدها فى عقله مئات المرات.
أنا أشفق على "عم صلاح"، لأني لا تغريني في الغالب الفرجة على مباراة معادة، إيمانًا بأن البث الحي والمباشر لكرة القدم هو كل شيء، فكيف لمن لا يقدر على رؤيتها فى الأساس، أن يملك كل هذا القدر من الغواية باللعبة، التي تكمن متعتها في النظر إليها؟!
الشيخ أحمد.. عاشق داوى الأهلي يُتم بصره
في عالم آخر، باعدت الدنيا بين الشيخ أحمد إبراهيم وناديه المفضل الأهلي، فأبحرت به الظروف إلى دبي، لكن شغفه بفريقه لم تهلكه المسافات، وإذا كان جمال الروح هو الشيء الوحيد الذي يستطيع الأعمى أن يراه، فالأمر مختلف تمامًا للشاب الذي علمته أمه أن الحياة لا تأتي ساطعة بالنور، لكنها تأتي مع نافذة تنير الطريق، والنافذة اختارها الشيخ أحمد أن تكون الأهلي، تلك المشاعر التي تفجر السعادة بداخله مثل "بركان"، حينما يسمع صيحات جماهير حوله، بينما يراقب محبوبه عبر الراديو الترانزستور الذي يفارقه.
يؤمن الشيخ أحمد للأهلي بأن الحب دون إخلاص، كالمسافر الذى يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه، لذلك يخلص للأهلى إخلاص العصفور للطيران، هذا الشيخ لا ينتظر من سماء الأهلى أن تسقط عليه ذهبًا، لأنه يحب هذا النادي بجوارحه البريئة، يرق قلبه لأسماء لاعبي الفريق، يحفظها، يكاد يعرف مواصفات كل واحد فيهم دون أن يراه، أو ربما يراه بقلبه، ينتظر أي مباراة للأهلي في الإمارات كأنها العيد، حين يلتقي مع شغفه.
هذا المشجع المتيم للأهلي، هو إمام مسجد في الإمارات، يؤرقه خلط البعض لأوراق التدين بتشجيع للأهلي، ويتساءل هل الكرة ديانة يوجد بين معتنقيها ملحدين؟ أم هي شغف يهدف إلى الرقي؟ وما دام منضبطًا بالآداب الشرعية والالتزامات الاجتماعية، ولا يترتب على تشجيعه لها تضييع واجبٍ شرعيٍ أو وطنيٍّ أو حياتيٍّ أو أُسريِّ، ويراها منافسة شريفة تضبطها قوانين اللعبة وأخلاقها، فما المؤذي في ذلك؟ أهكلت الأسئلة الشيخ أحمد؟ ربما يشيخ وهو يجادل البعض فيها، لكن المشجع المهووس للأهلي بداخله، لن يكبر أو يمل أبدًا.
"لن تسير وحيدا".. شعار الوطن مع المكفوفين
لم يكن المكفوفون يومًا غرباء في ملاعبنا، يُستقبل العاشقون منهم لكرة القدم بحفاوة بالغة، وكان استقبال المنتخب الوطني في معسكره الأخير، للصحفي الكفيف أحمد جمال من ذوي الهمم، رسالة واضحة على دمج هذه الفئة في الرياضة، كما تأخذ المؤسسات القائمة على الرياضة في الحسبان، تخصيص مقاعد لأصحاب الهمم في أماكن مخصصة ومناسبة كلا حسب ظروفه، وسعت مؤسسات الدولة المصرية للتعاطي مع الظاهرة، وأطلقت مبادرة في عام 2019 بعنوان "نور حياة".
الرياضة لم تكن في معزل عن دعم المكفوفين، فتم إشهار الاتحاد الرياضي المصري لرياضات المكفوفين في عام 2014، وتصاعد الاهتمام بكرة الجرس في مصر، وتوفير ملاعب مؤهلة لهم، ومحاولة تقديم وتطوير وتنمية مواهب مصرية مؤهلة لتمثيل الوطن في الألعاب البارالمبية، لتبقى قلوب هؤلاء المبصرة دليلهم للأمل، فمن فقد بصره يستطيع العيش بسعادة، لكن من فقد أمله فقد السعادة في الحياة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة