بينَ شَدٍّ وجَذْب.. بين أخذ ورد.. بين جموح وطموح وحمحمة وصهيل خيول.. ما بين صحراء ونيل.. وعزف وتراتيل.. وشجو وسحر.. ونهر وشعر وموسيقى تنتابك الحيرة بين سيرة حياة نهر "إميل لودفيغ" فى سِفْرِهِ وسَفَره عبر قارةٍ وشعوبٍ وقبائلَ.. عبر عادات وتقاليد وصراعات وعرقيات.. بين شباب نهر تأنْسَن وإنسان ذاب وتَنَهَّرَ.. بين ماضٍ من الزمان وآتٍ من الأيام.. هو النهر نيل ووطن وحياة.. هو منزلة وآية وكتاب يغترف منه الشاعر، وكأنه المقصود بقول أحد ملوك الأسر المصرية القديمة: "يمكن للناس أنْ يقولوا فيما بعد لقد كان نيلًا" حين كان النيلُ نيلًا والفيضانُ يَجْرِفُ الأعشابَ والأوشابَ للبحر خلاصًا وصلاةً وشعرًا وموسيقى.
هل يصلُحُ أنْ يكونَ هذا تصديرًا للقراءة أو عتبةً لعتبة النص/ الديوان التى حدَّدَها الشاعرُ بالألف واللام وكأنه يقول النهر الذى تعرفون أو هو النهر.. نهر النيل، من الإهداء: إلى النيل/ الوطن والوطن الإنسان.. فهما جماع الحياة وجمالها فى الشعر والموسيقى.. إنه النهر الذى تعرفون والذى أقصده، نهر النيل بالتحديد، وبالتنصيص فى الإهداء..!
ولست أدرى لماذا العنوان الفرعى شعر وموسيقى، وهل هما صفتان مجازيتان للنهر أم إضافة شارِحَة لما بين ضِفَّتَى الديوان، أيًّا كان الأمر فالكلمتان مرتبطتان بواو العطف فالشعر هنا ليس على إطلاقه ولكنه مواكب للموسيقى، وقد لا يكون كذلك، فالشعر شِعْرٌ بكل أشكاله ومدارسه والموسيقى مرافقة ومجاورة، وإن كنت أميل إلى التفسير الأول وهو الانحياز للشكل، وكأن الشاعر يريد أن يقول لنا: إن الشعر هنا مقصود به مظلة الخليل ومملكته مع تناصه فى عنوان شعر وموسيقى.
ومع ذلك فلن نقف كثيرا عند الشكل، فكم من أشكال قشيبة ومحلاة بكل المجازات والصور الشعرية والتخييل والتحليق وليس فيها ماء الشعر ودمه ولحمه وسداه.. وكم من أشكال فقيرة الثوب لكنها غنية بالصدق والعمق والانفعال، ولعلى حين أعود لمصطلح الأصالة والمعاصرة الذى راج استخدامه فى ثمانينيات القرن الماضى ولكنه خبا لجرِّهِ إلى حِجَاجٍ فلسفى دينى وتشكيكٍ حتى فى تناقُصِ القطبين، ولكنها الحاجةُ الآن تدْفعُنى للعودة للمصطلح لما وَجَدْتُ فى السنوات العشر الأخيرة من عودة حَثِيثَةٍ لنهر الشعر الكلاسيكي، ليس فى شكله الخليلى فقط ولكن بما جرى فى النهر من روافد حداثية وتلاقحات بين أجناس أدبية أخرى.. مسرح ورواية، حوار ومونولوج تيار الوعى بعد أن اتسعت القراءات، ولم يعد الشعر مجرد الوقوف على الجسر واستلهام الوَحْى دون تقديم السَّعوط والحنَّاء من ثقافات وقراءاتٍ وشَحْذٍ للمُخَيِّلَةِ وللعَقْلِ الواعِى وما يتسرَّب فى اللَّاوعْى من خبرة الحياة، نحن أمام جيل تسلح -بجانب الشكل- بكل أنواع الآداب والفنون قراءةً وتَجْرِبَةً وحياةً، يضاف لكل ذلك الموهبةُ التى تُؤَصّل وتشذّب وتهذّب لتُخْرجَ لنا إبداعاتٍ غايةً فى العمق والجمال والشاعرية ومن ثَمَّ كانت الأصالةُ الحفاظَ على الشكل الكلاسيكى التراثى بموسيقاهُ وبحورهِ وتفاعيله وزحافاتِهِ وعِلَلِهِ مع المعاصرة بما جَدَّ واستحدثَ من فنون الأدب والفن واستلهامها والتناصِّ والاشتباك معها فى تلاقح وتنافح يعمق القصيدة ويثريها ويفتح آفاق الدلالة بعيدا عن الاستنساخ والتكرار فى دوائر مغلقة فى سَلْفَنَةٍ مقصودة تهدفُ لأسْرِنا فى الماضى وفى القلب من ذلك كل صنوف الإبداع والثقافة.
هنا فى النهر نجد بردية النيل/مصر، الوطن/الإنسان/ الجمال والعشق والفن والحياة بالتفاعل مع النهر والجسر والحبيبة والأصدقاء والأخ والأم والفنانين والأدباء، والاشتباك مع اللون والقصيدة والغربة، كل ذلك فى صياغة غاية فى الجمال والحبكة والإدهاش حيث نجد أنفسنا أمام شاعر لا تقف أمامه قافية ولا وزن ولا زحافات ولا علل يتدفق ويتألق ويشرق فى نصوص قسمها جزئين، ىالجزء الأول سماه "سيمفونيات شعرية" والجزء الثانى سماه "أبواب ونوافذ"، وإذا ذهبنا إلى تفكيك عنوان الجزء الأول سيمفونيات شعرية نجد أنه يؤكد هنا العنوان الجانبى للديوان شعر وموسيقى.. فالسيمفونيات هى وحدة الموسيقى الكلاسيكية حيث تتكون السيمفونية ثلاث حركات سريعة وبطيئة ثم سريعة وأحيانا يضاف إليها حركة رابعة كما فى سيمفونية بيتهوفن الثالثة والتاسعة، لن أستطرد فى عالم السيمفونيات والموسيقى الكلاسيكية والأركسترات، فقط العنوان هو الذى جرنا لذلك، وكأن الشاعر يؤكد التزامه بالشكل الكلاسيكى السيمفونى بحركاته المعروفة وحشوده ورواده..! كذلك الشعر، أنا هنا ملتزم بشعر العمود ونهره وموسيقاه وبحوره وأوزانه.. قد أخرج لما تقتضيه المعاصرة والمثاقفات.. وما أثبته إميل لودفيج فى "حياة نهر".
وكما كان امرؤ القيس وأبو تمام والبحترى والمتنبى وأبو العلاء..، وما جدَّ على القصيدة العربية على يد سعدى يوسف وجيله والذى أهدى إليه الشاعر قصيدته فى الجزء الثانى من أبواب ونوافذ.. تحت عنوان والجَدَّ مقيمًا ومُغترِبًا، وسعدى أحد المجددين الحداثيين بانفتاحه على العالم وثقافته وتجاربه.. فطور قصيدته من الكلاسيكية الغنائية وله فيها باع طويل.. إلى قصيدة التفعيلة/ المكثفة والمعتمدة على جماليات السرد والصور الكلية للنص والكثيف حد التقشف.. وإيصال المعنى دون طنطنة أو خطابية.
أريد أن أقول إنَّ إهداء الشاعر قصيدته لروح هذا الشاعر.. يعنى أنه انفتح على تجربته سواء فى الغربة أو الإقامة، كما انفتح وتعامل مع مالك بن الريب، الماضى والحاضر/ الأصالة والمعاصرة والتجديد والتمديد ونرى ذلك جليا فى كل نصوص الديوان.. والتى تجاوزت الغنائية رغم وجودها فى بحور صافية.. إلى شعرية المعنى إلى الفكرة.. إلى الفحوى والمضمون دون النزلاق للحكمة والتفلسف والتخطابية والمباشرة..
وفى شعرية المعنى لا يغفل الشاعر الصورة التى تميز نصه والتى قد لا يخلو منها بيت.. ومع ذلك لاتقف حجر عثرة فى تدفق المعنى بل توضحه وتجمله وتجلوه بما يؤكد وعى الشاعر بفنية الكتابة.. وحرصه على جمالية النص ونصوع الفكرة والمعنى. فأنت فى النص الأول عروس الدلتا والحظر الصحي، وأسميه نوستالوجيا. جاءت القصيدة فى حوارية افتراضية عن الحنين للدلتا وصور الحياة فيها بداية من سطوح البيوت التى يجلس عليها القمر عليها.. صورة تنطق بالجمال.. رغم المفردات العادية.. كيف تخلق من العادى صورا مدهشة.. تجلس القمر على السطوح..
ثم الفجر المنزَّل من صياح ديوكنا.. ثم لمفردات الحياة الواقعية والتى تتمثل فى الصورة الكلية: "لتثاؤب الأجداد وسعالهم وحنانهم وحبهم لعيالنا، للصبح والنهر والشوارع والأشجار، وحراسة الحقل القديم وصيد أسماك العصاري، حصاد بستان الجوافة ،جنى لوز القطن فى بؤونة القاسى على أنفارنا ومواسم الأرز وغنوة الفلاحة البيت والطريق والنوافذ التى تغنى وصوت الأم وبنت العم التى رحلت، والحنين حتى للحضن والضم رغما كورونا فى حوار غاية فى البراعة والتأكيد على الرغبة فى الاحتواء حتى لو كان فيه الموت الذى يشكك فى فيه، هل يموت الناس حقا فى العواصم، هذا الحوار الذكى الموحى يؤكد أن الشاعر لديه طاقة الكتابة للمسرح الشعري، بل إنى أدعوه لذلك. هنا التطور الحواري.. والذى يؤكد أن الموت لن يكون من كرونا ولكن من انطفاء النور، ومن الجرى السريع مع القطيع.. ومن معاداة الربيع.. ومن مكافحة الغرائز..
أين القافية الكلاسيكية رغم التقفية الداخلية المتواترة والمتورة: "السريع، القطيع، الربيع، يصقلها، يشعلها. نحن أمام نص حداثى مائة فى المائة.. وربما ابتدأ به الشاعر الديوان كأنه يقول قبل أن تقرأ الشعر والموسيقى,, وحياة النهر فى القصائد المتناثرة خلال الديوان بعموديتها وموسيقاها.. أنا هنا أؤكد أن الشعر هو الشعر بكل أشكاله.. لكنى مع ذلك اخترت السيمفونيات.. والأبواب.. والنوافذ.. والأغاني.. لأطوعها لما أريد.. وما يمور فى الوجدان ويأتلق.. من المعانى والرموز والدلالات.. التى تنحاز لشعرية المعنى دون أن تنزلق للنثرية أو الخطابية أو الحكمة إلَّا أن تجيءَ بالرَّمز والإيحاء.
فى نص التجربة.. حالة من الوجد الصوفى محنة أو منحة عبر حالات تشف وتستشرف فى أسئلة الوجود الصعب حيث:"اكتشفت ،أنا اكتشفت هي، اكتشفت الله فى عدميَّتى والعفوَ فى إثمى وكان الإثم منجاتى ومركبتى لأصعد.. ليدخل عالم الفردوس.. حضنتُ ربا النعيم، وهمت كالسكران فى نور يفيض ولا يبدد، ورأيت ممَّا لا يرى ما لا يُحَدّ..".
تجلٍ آخر فى نص الخروج، يتناص الشاعر مع قصص الأنبياء فى القرآن الكريم: آنستُ نارا أوقدت نارا.. كنت غارا.. كنت كأسا لا يغيض وكنت ندمانا سكارى.." ليس فى القرآن فقط: إنه شرح يطول وإنه ضيق العبارة.. ثم روح وريحان.. وفاكهة وأبا.. من حاسد مما حسد.. من والد أسيان مما قد ولد.."
نعود إلى النهر وحديثه فى نص "حديث النهر" ص25، ورحلته فى مجراه الممتد.. وبين ضفافه والأشجار على جنبيه.. وأطرافه وحورياته وجنياته وهن يتحولن لأحجار تتدحرج فوق الجسد الصخري، وفأس الفلاح والسواقى التى تحلم بالغرق وذراع النحات وطرقها وهتافات الصحراء"العائمة على عرقي" ويسير مبتلعا المدن من المنبع للمصب للبحر يبتلع الغابة والخيمة "وظلال الجبل المجنون ويودع مصر ويودعها همس سرائرنا ونحدث لرماد النار عن الوطن المجدول فيافي.."
ومن حديث النهر لثورة أطفال النيل المنسيين فى سردية شعرية درامية.. من ابن الخامسة يسن السكين ويطعن خصر الأبدية، ويجمع أبناء السادسة كبار الساسة فى الأقفاص وينفوهم فى الظلم الليلية، وابن التاسعة يدخن سجائره ويطفئها فى رأس الآباء وينفخ فى وجه العدمية ( صور أسطورية )، وتقنية سينمائية.. ( صور التعذيب على مر العصور )، يكبل رجال المنتجعات، ويحاصر أندية اللعب المشبوهة، وكأننا فى فيلم من الخيال العلمي.. أو كابوس من إسقاطات الواقع.. يتبول الأطفال على الحكمة، وكالتنين يعض بنابيه الأحقاد الغربية والشرقية.. شخصيات (غرائبية عجائبية.. بأظافر معقوفة كمخالب نسر جوعان يفتح بطن النفعية.. طفل يتسلل من دار الأيام ويدعوهم لحرب كونية.. صفاته أيضا أسطورية.. رئتاه حرائق غابات من أثر الفتن الأهلية.. (ترمز للأحقاد وغليان الصدور) وقد صار حرائق غابات إلى آخر صور الفساد التى صاروا عليها.. والمعركة الكابوس يقودها الخوف إلى أن تسكر الدنيا من الغيظ.. ويبدو المنظر دمويا..
أما أطفال إفريقيا فقد اصطادوا الأسد المغتر، ومصوا أعواد القصب وندوا أغصان الزعتر، ورقصوا للريح وللأنواء وللحقل المثمر..، ثم عودة الرجل الأبيض الذى غزا إفريقيا.. التى كانت آمنة بأفراس النهر والشمس الهادئة. لا تحدثونا إذن عن لعبة الأطفال.. عن اللصوص والعسكر لأنها أصبحت واقعا مرا متكررا.
الدكتور عيد صالح
فى كل ما ذكرت تبدو شعرية المعنى.. والرؤية.. والفكرة التى تختمر فى الذهن مرورا بالوجدان الذى يفجرها.. بالموهبة والحرفية ومخزون التجربة والثقافات والفنون والآداب بشتى أنواعها.. لتتحول لسبيكة ذهبية تنساب فى دَنٍّ شعرى عذب كان أو أسيان رائع.. وموجع.. يثير المشاعر ويحرك فى القارئ إيجابية التفاعل مع جمال الاستمتاع بالصور المتلاحقة فى صياغة تعمق الفكرة وتزيدها نصاعةً دون مباشرة خطابية أو عجلة إيقاعية.. حتى فى الأغاني.. والأبواب والنوافذ والتجليات.
- إشارات:
1- تظل الرومانسية رغم قسوة الواقع.. والثورة الحداثية وما بعد الحداثية عليه.. والتى تتجلى فى بعض القصائد فى محاولة للتحليق بالخيال الرومانسى لغة ومشاعر تسمو وترق وتشف فى قصائد:
أ- اللقاء والوداع: بلغتها وإيقاعها الراقص العذب المتدفق.. بموسيقاه وأوزانه.. وتراكيبه وصوره المحلقة.
ب- العودة: ترى ما الذى أضاعك مني
ومن أطفأ الليل عنك وعني
ج- بئر الينسون الدافئ.
2- الخروج من دائرة الذات إلى الآخر.. والذى قد يكون الوجه الآخر للذات.. أنت أنا وأنا أنت فى قصائد غايةً فى الروعة والتصوير والسَّبك.. والصدق الإنساني/الإنسانى الذى يضيء لا بمعناه القيمى.. ولكنه المشترك الإنساني.. الحب/ الخير/ الصراع المشاعر والأحاسيس.. الإخاء ما يجمع البشر من خير وشر.. من مصائب وكوارث ما يوحد بينهم كالفن في: جنة الألوان(1) المهداة إلى الفنان العراقى "سعد علي"، وجنة الألوان(2) المهداة إلى الفنانة المصرية إيفيلين عشم الله. والآخر فى قصيدة أجمل الأخويْن المهداة إلى "السيد سباق"، الآخر في.. باب الأم.. فى هو وهي، فى القصيدتين إلى سعدى يوسف ومالك بن الرَّيْب.. الشاعر مهموم بالآخر المبدع ومتأثر به حدَّ الكتابة عنه.. فى قصائد علامات تؤرخ بحب وعذوبة وجمال وإنسانية للعلاقة بالآخر الأنا الذات المجموع.. الأدب الفن الحياة.
3- كما أشرتُ من قبل فى البداية أن الشاعر بإمكانياته وموهبته وشاعريته العريضة يصول ويجول ويغترف من نهر الشعر العذب الصافي.. بصوره المتلاحقة المشرقة وخياله الجامح ومجازاته المبهرة.. يطوع الواقع ويذهب بنا فى بنيات شعرية مختلفة رغم شكلها العمودى وموسيقاها الصافية وقوافيها التى تجيء سلسةً ودالَّةً وقَشِيبَةً. هذا الشاعر استطاع بموهبته الهائلة وثقافاته المتنوعة/العميقة وفكره وعاطفته أن يكون له سمته ولغته وقصيدته التى لا تتشابه رغم أنها قد تتناص مع التراث.. التراث الذى لا يزال يناطح وينافح الحداثةَ وما بعدها.. فما زال شعر المتنبى وأبوتمام والمعرى وامرؤ القيس.. مبهرا خالدا.. بصوره وإنسانيته وحكمته وفلسفته.
4- وكما قلت إنه يملك أدوات الحداثة ويستعمل أفكارها ويطوِّعها فى قاموسه الشعريّ.. من سرد وحوار ومشهدية وتشكيل.. وكل ذلك يحتاج لدراسة خاصة غير تلك النظرة العامة على الديوان.