تمر اليوم ذكرى الميلاد الـ 100 للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، والذي كانت تربطه علاقات قوية بالكتاب والفنانين ومنهم العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ.
يحكى الأستاذ هيكل للكاتب الكبير عادل حمودة، فى حواره الطويل معه عام 1995، إن من بين الذين أحبهم ودائمًا ما يتذكرهم العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ.
ويروى جليل البندارى أثناء احتفال محررى الأهرام بمناسبة مرور عشرين عامًا على اشتغال هيكل بالصحافة، ودعاه على الجمال لحضور هذه الحفلة فى نادى الأهرام بالقرب من ميدان التحرير: فوجئت بالتغيير الذى أحدثه هيكل فى الأهرام، فوجئت بالقمصان الأسبور والضحكات الرنانة والمسابقات الطريفة، وعثمان العنتبلى يقلد جميع زملائه من أول رئيس التحرير لغاية نفسه، وأحمد بهجت يختبر معلومات رئيسه فى الصحافة.
وكمال الملاخ يرقص عشرة بلدي، وعبد الحليم حافظ يغنى أغنية جماعية هى بالأحضان ويرددها معه جميع محررى الأهرام، ثم يغنى محررو الأهرام أغنية قلبى وأفراحه ويقوم معهم عبد الحليم بدور الكورس.
كان يرى أن الأغنية لا تتجزأ ولا يجوز فى مجال النقد أن تفصل الكلمات عن النغم أو النقد عن الأداء، فهى عمل فنى كامل. والغناء عمل جماعى يشترك فيه المطرب والملحن وموزع الموسيقى والموسيقيون، وأى نقص أو فشل فى ناحية يؤثر على باقى العناصر.
وكان يرى أن صوت عبد الحليم عبارة عن "نبرة حنان فى وسط ضجيج عال".
وحكى يوسف القعيد عن هيكل حكاية تقول الكثير عن حليم الذى منحناه كل الحب الذى كان فى صدورنا، وما زلت أشعر بحنين لصوته وللزمن الذى غنى فيه، كان الرئيس عبد الناصر يعتبر حليم نتاج ثورة يوليو، وصوت الثورة ومطرب الثورة، مرة عمل عبد الحليم حافظ حاجة غريبة لم يعرف كيف يتصرف فيها، وقد واجهها بحيرة كاملة.
كان حليم قد بدأ يسافر للخارج، وأصبح نجمًا، وكان يسمع أن الرئيس يحب أربطة العنق، حليم فى مرة جاء لبيت عبد الناصر، وأنا – يقول الأستاذ هيكل – كنت موجودًا، كان من عادته أن يصل إلى البيت ويجلس مع أولاد الرئيس الذين كانوا فى سن الصبا.
ويثير حالة من الفرح الإنسانى النادر فى كل مكان فى البيت، كان يُزيط ويُهرِّج مع الأولاد، وكان الرئيس يحبه جدًا.
دخل حليم على الرئيس وفى يده شى ما، دستة من الكرافتات، وعبد الناصر قال له:
- شوف يا حليم، أنا حاخد واحدة فقط. بس ما تعملهاش تانى أبدًا.
قال له حليم: طيب سيادتك اختار.
قال له عبد الناصر: أنا حاخد واحدة بالبخت دون اختيار. ويكمل هيكل: حليم كان يمكنه أن يرى عبد الناصر فى أى وقت. لكن لم تكن هناك أى حوارات حقيقية بينهما. على أن لحليم مكانا فى كتابات هيكل عن تلك المرحلة. وحسب ما أمدنى به الصديق خالد عبد الهادى، الذى يحمل فى صدره وفى وجدانه تاريخ هيكل.
وفى كتاب هيكل نفسه "عبد الناصر والعالم" يقول: ذات مساء وبينما الكل فى انتظار الغزو - فى يونيو 1956 - بعد انتخاب عبد الناصر رئيسًا لمصر - كنت مع الرئيس فى مقر مجلس قيادة الثورة. فوجدت عبد الناصر يرزع الشرفة ذهابًا وإيابًا بمزاج معتكر. بعد سماعه أغنية: إحنا الشعب، كلمات: صلاح جاهين وألحان: كمال الطويل. والتى يغنى عبدالحليم فى بدايتها: إحنا الشعب، اخترناك من قلب الشعب.
ويصف هيكل كيف تعاملت الناس مع الأغنية: "ألهبت الأغنية خيال الجماهير. وغنوا والفرحة الغامرة وحرارة التفاؤل تملأ قلوبهم مع حليم. وأخذ كل إنسان يرددها وينشدها مؤمناً بالمستقبل الواعد الذى سوف يتحقق على يدى عبد الناصر. كان حليم قد أصبح أوسع المطربين شهرة.
وتوقف عبد الناصر أمام المقطع الذى يغنى فيه: ياللى بتسهر لجل ما تظهر شمس هنانا...إحنا جنودك سيبنا فى إيدك مصر أمانة. وقال لى أحسست بشعور غريب وأنا أسمع التعبير: سيبنا فى إيدك مصر أمانة. إن مصر فعلاً فى ظرف خطر وهى فعلاً مرهونة على حسن تصرفنا وعلى شجاعتنا فى المواجهة. لهذا لا بد أن نبذل كل ما فى وسعنا لحمايتها وإنقاذها.
كان العندليب الأسمر شديد الحب والاحترام لهيكل، ويثق به، كان يذهب لمكتبه فى آخر ساعة، وقت أن كان هيكل، رئيساً لتحريرها، ليجرى حوارا صحفيا مع الصحفى جليل البنداري، حيث كان يتخوف حليم، من قسوة أسلوب البندارى فى طرحه للأسئلة.
كان جليل البندارى موسوعة صحفية وثقافية وفنية تسير على قدمين، فهو الكاتب الصحفى والناقد الفنى والشاعر الغنائى والمنتج السينمائى وكاتب القصة والسيناريست أيضاً، وقد اشتهر جليل البندارى بطول لسانه فى كل المجالات التى عمل بها، وبعد أن شاع طول لسانه عرف البندارى بلقب "جليل الأدب .. وبندارى عليه" ونسب اللقب مرة لمصطفى أمين ومرة لتحية كاريوكا حيث كانت لها معارك مشهودة مع البنداري، وقد شخص البندارى نفسه تلك الحالة التى أصبحت جزءًا من تكوين شخصية، فأكد لصديقه محمد وجدى قنديل أنه " أبيح " أى طويل اللسان وليس قليل الأدب، فالأول يمسح الدموع والثانى يجرح المشاعر.
ويقول مجدى العمروسى صديق حليم وشريكه فى شركة صوت الفن فى مقال له نشر عام 1998 ان الفنان الوحيد الذى استطاع أن يستفيد من جليل البندارى وينجو من طول لسانه كان عبد الحليم حافظ، فقد كان للبندارى باب أسبوعى باسم "ليلة السبت" وقد طلب من حليم أن يأتى إليه ليجرى معه حواراً لنشره فى ذلك الباب .. وكان حليم يعلم قيمة تلك المقابلة وأنها ستزيد من شهرته ونجوميته ولكنه كان يخشى شتائم جليل البندارى، فتوجه حليم إلى الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل وعرض عليه مشكلته، فهو يرغب فى إجراء الحوار مع البندارى لكنه لا يحب أن يشتمه أحد، فقال له هيكل : أنت طبعاً تعرف قيمة حديث تجريه مع جليل البندارى فى باب ليلة السبت بأخبار اليوم وإلا ما كنتش جيت لي، وأنصحك ألا تجعل هذه الفرصة تفوتك .. ولكنى سوف أجد لك طريقة أمنع بها عنك شتائم البنداري.
أمسك الأستاذ هيكل بسماعة التليفون وطلب جليل البندارى وقال له : يا أستاذ جليل .. أنا عندى عبد الحليم حافظ، وهو سعيد جداً أنك سوف تجرى معه حديثاً فى ليلة السبت، وأنا نفسى أحضر هذا الحديث، فهل يمكنك إجراء الحوار فى مكتبي؟ .. ووافق جليل البندارى بعد أن فهم الأمر، وحضر إلى مكتب هيكل وبدأ إجراء الحوار مع حليم بطريقة الكتابة، فكان أول سؤال مكتوب لحليم هو : "إنت جايبنى عند هيكل علشان ما اشتمكش يا ابن الـ ..." وتظاهر حليم بأنه لم يقرأ الشتيمة وأجاب بمنتهى الجدية: "أنا اسمى عبد الحليم على إسماعيل شبانة الذى أصبح عبد الحليم حافظ بنصف اسمه فأصبح عبد الحليم حافظ" .. وتوالت الأسئلة والأجوبة بهذا الشكل الصامت وكان هيكل يدرى بما يدور، وقد مضى الحديث ممتعاً وأصبح حليم فى منتهى السعادة بأن حواره سينشر فى ليلة السبت، ومن هنا أحب عبد الحليم حافظ جليل البندارى وأعجب البندارى بذكاء حليم وتصادقا وقد أصدر البندارى كتاباُ عن حليم باسم "جسر التنهدات".
ظلت علاقة هيكل وحليم قوية وكان العندليب حتى وفاته فى مارس عام77 ويعتبره مستشاره ومعلمه ليس فى السياسة فقط وانما فى الفن أيضا وفى مجالات أخرى، ودائما ما كان يهدى اليه كتبه بتوقيعه الخاص.