"وربما جاء يوم نجلس فيه معًا لا لكى نتفاخر ونتباهى، ولكن لكى نتذكر وندرس ونعلم أولادنا و أحفادنا جيلًا بعد جيل، قصة الكفاح ومشاقه مرارة الهزيمة وآلامها وحلاوة النصر وآماله. نعم سوف يجيء يومًا نجلس فيه لنقص ونروي ماذا فعل كل منا فى موقعه.. وكيف حمل كل منا أمانته وأدى دوره، وكيف خرج الأبطال من هذا الشعب وهذه الأمة فى فترة حالكة ساد فيها الظلام، ليحملوا مشاعل النور وليضيئوا الطريق حتى تستطيع أمتهم أن تعبر الجسر ما بين اليأس والرجاء…"، كلمات خالدة في قلوب وأذهان المصريين على مر الأجيال، من خطاب النصر التاريخي الذى ألقاه الرئيس الراحل محمد أنور السادات أمام مجلس الشعب فى 16 أكتوبر 1973، نعيد الاستماع إليها كل عام و على مدار نصف قرن مضى بنفس شعور الفخر والاعتزاز كما لو كنا نستمع إليها لأول مرة.
يقول أبطال عسكريون من جيل النصر، في حديث لوكالة أنباء الشرق الأوسط ، بمناسبة اليوبيل الذهبي لحرب أكتوبر، إن تلك الحرب فريدة من نوعها؛ إذ أعطت درسًا نموذجيًا يُحتذى به فى فنون الحرب والمعارك، وفي براعة التخطيط الاستراتيجي والقيادة الحكيمة التي استخلصت العبر والدروس واستخدمت عنصر المفاجأة، وحطمت نظرية الأمن الإسرائيلي، فانهار العدو معنويًا وعسكريًا رغم التحصينات والتسليح الأفضل، وشعر الجميع من الحلفاء والأعداء بمزيج من الدهشة والصدمة، ليتوقف التاريخ العسكري أمام تلك الحرب، كما تنبأ الرئيس السادات حين قال في خطابه : "ولست أتجاوز إذا قلت أن التاريخ العسكرى سوف يتوقف طويلاً بالفحص والدرس أمام عملية يوم السادس من أكتوبر سنة 73 حين تمكنت القوات المسلحة المصرية من اقتحام مانع قناة السويس الصعب واجتياح خط بارليف المنيع وإقامة رؤوس جسور لها على الضفة الشرقية من القناة بعد أن أفقدت العدو توازنه.. في ست ساعات".
"نعم، توقف التاريخ العسكري أمام خطة تلك الحرب العظيمة، وصدق الرئيس السادات"، هذا ما أكده اللواء فؤاد فيود، أحد قادة حرب أكتوبر ومستشار مدير إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة، موضحًا أن العالم كان يرى مصر في هذا التوقيت غير قادرة على الحرب و القتال أمام التفوق العسكري الإسرائيلي و بعد أن فقدت جيشها ومعدتها عام 1967، مضيفًا: "ولكننا خضنا الحرب على عكس التوقعات، وأذهلنا العالم، والنتيجة لم تكن استرداد أرضنا المحتلة فقط بل و تأمين حدودنا، ولم يجرؤ العدو على التفكير في المحاولة مرة أخرى، وجلس معنا ليتفاوض ووقع معاهدة سلام، وأدرك العالم منذ ذلك الحين أن مصر بها جيش متأهب لقطع أيدي كل من تسول له نفسه اغتصاب شبر واحد من أرضه".
ولفت إلى أنها كانت حرب تاريخية بمعنى الكلمة، و تركت آثارًا ممتدة حتى يومنا هذا، حيث خرجت مصر من تلك المعركة "بدرع وسيف" أي بجيش عظيم قادر على الردع وحماية الوطن، فلا يستطع أحد الاقتراب من أراضينا بفضل وجود هذا الجيش.
وتابع أنه يتذكر جيدًا أداء و استبسال زملائه بالمعركة، وإصرارهم على عدم العودة إلى ديارهم قبل إعادة سيناء لمصر، فضلًا عن التفاف الشعب خلف قيادته وجيشه في تلك الفترة العصيبة، و تكريس إيرادات الحفلات التي كانت تحييها أم كلثوم وعبد الحليم حافظ للمجهود الحربي، بجانب دعم الشركات المدنية للقوات المسلحة.
وتحدث عن الدور بالغ الأهمية للتوعية الدينية آنذاك التي جعلت الجنود يتسابقون على الاستشهاد في سبيل وطنهم كما يتسابق أعداؤنا على الحياة، قائلًا : "أتذكر شيخ الأزهر الراحل عبد الحليم محمود الذي كان يحفزنا على القتال و يقول لنا: أرض مصر هى أرض التجلي الإلهي حيث اختارها الله عندما تحدَّث و تجلى لسيدنا موسى، وذُكرت بالقرآن الكريم صراحة في خمس مواضع، وذكرت بالإشارة إليها عشرات المرات في مواضع أخرى".
وسلط الضوء على حرب الاستنزاف حيث تضمنت تلك الفترة العديد من إنجازات القوات المصرية، ومنها إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات، و القصف المدفعي المركز على خط برليف، واستشهاد الفريق أول عبدالمنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، يوم 9 مارس 1967 وهو وسط الجنود على الجبهة والذي ترتب عليه عبور وحدة خاصة القناة، بقيادة إبراهيم الرفاعي للثأر وقتلت وأصابت ما لا يقل عن 40 ضابطًا وجنديًا من جنود العدو كما دمرت العربات المدرعة ومخازن الذخيرة الموجودة بالموقع.
ومن ذكريات الحرب يروي اللواء فيود: "كنت أتدرب على عبور القناة في بحيرة قارون على يد النقيب الراحل سامح سيف اليزل، و على اقتحام الساتر الترابي بالقناطر الخيرية، وكلنا يقين في مقولة الزعيم جمال عبد النصر أن ما أُخذ بالقوة لا يٌسترد إلا بالقوة"، مشيرًا إلى أن صورة العمل الشاق والتكاتف الشعبي مع الجيش لاسترداد الأرض والكرامة خالدة في ذهنه.
وشدد على ضرورة ألا ننسى أن حرب أكتوبر ضربت أروع الأمثلة في اتحاد عنصري الأمة، مذكرًا في هذا الصدد بالأبطال المسيحيين بالمعركة، حيث كان يلازمه طوال الحرب بجهاز اللاسلكي الشويش "رمزي لبيب فلتس"، مستشهدًا كذلك بأصحاب الأداء البطولي العقيد فؤاد عزيز غالي قائد الفرقة 18 التي حررت "القنطرة شرق"، و أخيه المقدم المقاتل موريس عزيز غالي، واللواء المهندس باقي زكي يوسف صاحب فكرة استخدام ضغط المياه لإحداث ثغرات في خط برليف، وغيرهم الكثير من الجنود الأقباط الأبطال الذين لم يتأخروا يومًا عن تلبية نداء الوطن.
ودعا اللواء فيود "شباب مصر" إلى الاقتداء ب"شباب نصر أكتوبر" الذين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل الوطن وقدموا أرواحهم فداءً لأرضهم، و إلى العمل للحفاظ على مصر وريادتها وسط الأمم والمساهمة في تحقيق حلم التنمية المنشودة بالبلاد.
من جانبه، أكد رئيس جهاز الاستطلاع الأسبق، و أحد أبطال الحرب، اللواء نصر سالم، أن التاريخ لن ينسى أن المهاجم المصري لم يكن يملك التفوق على المدافع الإسرائيلي في الحرب، حيث كانت إسرائيل متفوقة كمًا وكيفًا، من حيث عدد الدبابات والطائرات والذخيرة وأنواعها، بجانب حيازتها لأسلحة نووية، وتحصينها بخط برليف أصعب وأخطر مانع في التاريخ على الإطلاق، فضلًا عن وقوف الولايات المتحدة الأمريكية و بعض الحلفاء الآخرين بجانبها، ورغم كل ذلك كان النصر حليفًا لمصر.
وتحدث عن التوازن الاستراتيجي بين مصر وإسرائيل خلال الحرب، إذ يتضمن ثلاثة أبعاد: أولًا البعد البنائي ويتمثل في المقدرات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، ثانيًا البعد السلوكي ويقاس بالعلاقات والتحالفات، وأخيرًا البعد القيمي أي الإرادة، مفسرًا بأن البعد البنائي والسلوكي لم يكنا في صالح مصر خاصة أن أكبر دولة بالعالم كانت حليفة إسرائيل وسخرت لها جسرًا جويًا لامدادها بكل ما تحتاج اليه أثناء الحرب، مضيفًا "إلا أن البعد القيمي قد حسم المعركة لصالحنا، لأن الجندي المصري ذهب إلى الحرب وأمامه خيار من الاثنين النصر أو الشهادة ، فأرضه محتلة ولابد من تحريرها بأي ثمن ، فانطلقنا و انتصرنا".
وأبرز بطل الحرب كيف أضاء نصر أكتوبر الطريق أمام مستقبل الأجيال المتعاقبة، فقد ولدت تلك الأجيال في وطن منتصر حر ذات سيادة، مدركين أن أجدادهم ضحوا بأرواحهم لكي يحيون بأمان وسلام، مرفوعي الرأس.
ونوه بأنه لولا نصر أكتوبر لما أصبحت مصر ما هي عليه اليوم، إذ تسير بخطى ثابتة في مشروعات عملاقة ومسيرة تنمية مستدامة، تحظى بالريادة والاحترام والتقدير من كافة دول العالم التي تجلس معنا للتفاوض على الشراكة وتحرص على دفع العلاقات الثنائية، ونتعامل معها على قدم المساواة.
وحث اللواء نصر سالم أبناء مصر ألا ينسوا أن "جنود أكتوبر" خاضوا الحرب وكانوا مدركين بأنها حرب غير متكافئة ولكن جعلوا نصب أعينهم الآية القرآنية ؛"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، مختتمًا:" فبذلنا كل ما استطاعتنا، أي أقصى طاقة ممكنة؛ لتحقيق هدفنا و استعادة أرضنا، وكلنا إيمان بأن: وما النصر إلا من عند الله".
اللواء وائل ربيع، مستشار مركز الدراسات الاستراتيجية بالقوات المسلحة، أكد أن ما ميز حرب أكتوبر عن أي حرب أخرى عرفها التاريخ ثلاثة عوامل، في مقدمتها "خطة الخداع الاستراتيجي" التي وضعتها القيادة السياسية والعسكرية المصرية، والتي تُدرس منذ العام 1973 و حتى يومنا هذا في المعاهد والكليات العسكرية على مستوى العالم، مضيفًا:"هذه الخطة العبقرية لم تخدع إسرائيل فقط بل خدعت القوتين العظمتين بالعالم، حتى أن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر اعترف في كتابه بأن الولايات المتحدة لم يرد إليها أي معلومات عن موعد تلك الحرب".
وتابع أن "الجندي المصري" يأتي في المرتبة الثانية عقب خطة الخداع، فهو أحد عوامل النصر الرئيسية، وذلك بحسب اعتراف رئيس وزراء إسرائيل الأسبق أريل شارون الذي شارك في كل الحروب ضد العرب ومصر، حيث رأى أن "الجندي المصري" الذي كان يحارب أمامه في حرب 1973 لم يكن نفسه الذي حارب من قبل في أعوام 1967، 1956، 1948.
ولفت اللواء وائل ربيع إلى أن "جنود أكتوبر" تلقوا التدريبات على أعلى مستوى طوال سنوات الإعداد الستة قبل الحرب، وعزموا على رد الأرض والكرامة وإن كان الثمن حياتهم.
وأكمل أن العنصر الثالث الذي ميز حرب أكتوبر كان الأسلوب الذي انتهجه الرئيس السادات لإعادة سيناء لمصر، حيث بدأ بحرب عسكرية في السادس من أكتوبر ذات أهداف محددة ثم استكمل بمفاوضات سياسية.
وأوضح، في هذا الصدد، أن الأهداف الثلاثة التي حددتها القيادة المصرية من حرب أكتوبر كانت: عبور القناة، تحطيم خط برليف و الاستناد على خط رئيسي في عمق سيناء، وعندما نجح جيش مصر في تحقيق تلك الأهداف، اتجه الرئيس السادات إلى الهدف النهائي وهو استرداد الأرض كاملة عبر المفاوضات السياسية ، وجلس منتصرًا على طاولة المباحثات، منوهًا بأن أسلوب القيادة المصرية لتحقيق النصر، وخطة الحرب ذات المسار العسكري والسياسي معًا، شهد لها المفكرين العسكريين الغربيين.
ورأى اللواء وائل ربيع أن من أهم الدروس المستفادة من حرب أكتوبر بالنسبة للأجيال الجديدة هي "المثابرة على تحقيق الهدف"، داعيًا أبناء مصر التي لم تعاصر "جيل النصر" إلى استخلاص تلك العبرة التي كانت لها أبلغ الأثر في الانتصار، منبهًا بأن الكثير من شباب اليوم يمل ويكل حال واجهته صعوبات في طريق الوصول لهدفه، مذكرًا بأن شباب 73 وقف أمام تحقيق هدفهم "خط برليف"- وهو أقوى خط دفاع في العالم باعتراف كل بلاد العالم- والذي قال عنه موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك لرئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير "إن المصريين في حاجة إلى سلاحي المهندسين الأمريكي والسوفيتي معًا للنجاح.." ، إلا أن شباب الحرب صعد خط برليف المنيع بزاوية انحدار 45 درجة، وهو يحمل الأسلحة الثقيلة وقاعدة قذائف الهاون، ونجح؛ لأنه أصر على الوصول إلى هدفه.
من جهته، أكد لواء طيار دكتور هشام الحلبي، المستشار بالأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية، أن حرب أكتوبر ليست مثل أي حرب أخرى فى التاريخ الحديث، فهي تُدرس اليوم في كبرى الأكاديميات العسكرية بالعالم؛ لكونها الحالة المثالية التى حققت فيها قوات مسلحة أقل فى الإمكانيات أهدافها على قوات أخرى أعلى منها فى الإمكانيات وهى إسرائيل، موضحًا أن القوات المصرية عام 1973 لم يكن بإمكانها على الإطلاق و بمعايير العلم العسكري أن تخوض عملية هجومية وتنفذ ثلاثة اقتحامات رئيسية لثلاث خطوط دفاعية وهى قناة السويس والساتر الترابى وخط بارليف الحصين، إلا أنها نجحت بالفعل وحققت انتصارًا سطره التاريخ بحروف من ذهب.
وأبرز اللواء الحلبي ثلاث بطولات رئيسية قام بها أبطال قواتنا المسلحة في تلك المرحلة، الأولى إعداد جيش وفي نفس الوقت خوض "حرب الاستنزاف" - التي بدأت بعد فترة وجيزة من حرب 1967 إلى قبل حرب 1973- ولذلك كانت مهمة مزدوجة في غاية الصعوبة؛ إلا أنهم نجحوا في إعداد القوات المسلحة مع تكبيد العدو خسائر خلال حرب الاستنزاف في آن واحد.
وأضاف أن الانجاز الثاني الذي حققه "جيل النصر" هو خوض حرب أكتوبر باحتراف عالي فى التخطيط والتنفيذ، وكسر نظرية الأمن الإسرائيلية والتى تستند على احتلال أرض خارج الحدود وإنشاء خطوط دفاعية، وقد أسقطت القوات المسلحة المصرية هذه النظرية في ست ساعات يوم السادس من أكتوبر. وتابع:"أما البطولة الثالثة، و التي يجب تسليط الضوء عليها، هي أن أبطال نصر أكتوبر نقلوا خبرتهم باحتراف وبحب شديد إلى الأجيال التي أعقبتهم، وكنت أنا ضمن هذا الجيل حيث عاصرت رجال أكتوبر عقب انتهاء الحرب مباشرة وتلقيت التدريب مع هؤلاء الأبطال"، مؤكدًا أن نقل الخبرات والتجارب من جيل الحرب إلى الأجيال المتتالية هو أحد أسباب تميز منظومة القوات المسلحة المصرية العظيمة التي تتبوأ اليوم مكانة مرموقة ومرتبة متقدمة وسط كبرى جيوش العالم، وتحقق "استراتيجية الردع" لحماية الأراضي المصرية.
وشدد اللواء الحلبي على ضرورة نقل "روح أكتوبر" للأجيال القادمة، تلك الحالة التي سيطرت على مصر كلها من مدنيين وعسكريين، دولة وشعبًا، وجعلت الجميع على قلب رجل واحد، وتعليمهم كيف استطاع أجدادهم تحويل الهزيمة إلى نصر، و إيجاد حلول غير تقليدية لمشاكل بالغة التعقيد، منوهًا بأن الأمثلة كثيرة في هذا الصدد، مستشهدًا بتمكن الجيش خلال الحرب من تجاوز ساتر ترابي ارتفاعه أكثر من 20 متر وبميل 45 درجة، في الوقت الذي أكد فيه الخبراء أن هذا الساتر يحتاج إلى قنابل ذرية تكتيكية لعمل فتحات فيه ، ولكن قواتنا المسلحة بمضخات مياه ذات مواصفات خاصة فتحت ثغرات في هذا الساتر الترابي الضخم.