لعبت مصر دوراً فاعلاً في المساهمة في إنهاء الأزمات في المنطقة العربية وإعادة الاستقرار، بما لها من قوة ومكانة، وما يضيفه لها موقعها الجغرافي ودورها التاريخي.
وكان الدور المصري حاضراً وبشكل فعال في الملفات والقضايا الرئيسية في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، وقد كانت هذه التحركات الفعالة محكومة بجملة الثوابت والحددات الخاصة بالسياسة الخارجية للجمهورية الجديدة، ويمكن بيان أوجه فاعلية ونشاط السياسة الخارجية المصرية على مستوى التعامل مع دول الأزمات في السنوات الأخيرة، وذلك على النحو التالي:
استمرار الدور المحوري في القضية الفلسطينية:
مثلت السياسة الخارجية للجمهورية الجديدة تجاه القضية الفلسطينية، وما حققته من نتائج على أكثر من مستوى خلال السنوات الماضية، تأكيداً على محورية الدور المصري في القضية الفلسطينية، وأن مصر تظل هي الطرف الذي يمسك بكل خيوط القضية، وأن الدور التاريخي لمصر في القضية الفلسطينية ليس فقط هو المحرك لأدواتها وكل عناصرها، وإنما هو امتداد طبيعي لدورها الحالي الذي اتخذ خطوات لا تقل أهمية بدليل التنسيق المستمر بين القاهرة وطرفي النزاع وكذلك المجتمع الدولي ودول التماس في الشرق الأوسط.
وقد تجسد هذا الدور المصري في السنوات الأخيرة في عدد من المشاهد الرئيسية التي عبرت عن طبيعة وحيوية الجهود المصرية في هذا الملف، ففي يونيو 2021 وفي أعقاب اندلاع مواجهات مفتوحة بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، تبنت مصر العديد من التحركات المهمة وكان منها زيارة وفد أمني رفيع المستوى لكل من قطاع غزة وإسرائيل، مما أدى إلى تبلور اتفاق لوقف إطلاق النار والتهدئة بين الجانبين، كذلك لعبت مصر دوراً مهماً في الأشهر والسنوات الأخيرة على مستوى عمليات إعادة إعمار غزة بالشراكة مع بعض الأطراف العربية، أيضاً فقد كثفت مصر من جهودها على مستوى دعوة المجتمع الدولي وحشده ضد أي انتهاكات أو تصرفات أحادية إسرائيلية، فضلاً عن رعاية مصر في الأشهر الأخيرة لجهود المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، والتي كان آخرها اجتماع الأمناء العاميين للفصائل الفلسطينية في مدينة العلمين الجديدة في يوليو 2023، ووجهت الفصائل الفلسطينية الشكر للرئيس المصري على استضافة مصر لاجتماع الأمناء العامين، مؤكدين دور مصر المحوري الداعم للقضية الفلسطينية.
علاقات استراتيجية مع العراق:
شهدت العلاقات المصرية العراقية في السنوات الأخيرة، تطوراً ملحوظاً وصل بها إلى حد الشراكة الاستراتيجية، وجعلها نموذجاً لما يجب أن تكون عليه العلاقات العربية العربية، وقد تجسد هذا التطور الذي وصلت إليه العلاقات الثنائية في تقارب الرؤى المصرية العراقية إزاء عدد من الملفات ومنها ملف مكافحة الإرهاب، وملف تعزيز العمل العربي المشترك، فضلاً عن أن كثافة وطبيعة الزيارات التي جرت بين مسؤولي البلدين في السنوات الأخيرة، تعبر عن وصول العلاقات الثنائية بين الجانبين إلى نقطة متقدمة وحيوية، فضلاً عن تنامي أوجه التعاون الاقتصادي والاستثماري، واشتراك الجانبين في المشروع المعروف بـ "المشرق الجديد" أو "الشام الجديد" جنباً إلى جنب مع الأردن، وهو المشروع الذي سيعيد رسم خرائط النفوذ والتحالفات في المنطقة حال استكماله.
مقاربة متوازنة تجاه الأزمة السورية:
تبنت الدولة المصرية في مرحلة ما بعد ثورة 30 يونيو 2013، مقاربة متوازنة تجاه الأزمة السورية، وهي المقاربة التي وصفها البعض بـ "مبدأ السيسي"، والتي ركزت على أولوية الحل السياسي بالنسبة للأزمة السورية، على أن تكون تفاصيل وحيثيات هذا الحل هي مخرج لتوافق سوري – سوري، أيضاً فقد ركزت المقاربة على رفض التدخلات الخارجية في الشأن السوري، وأكدت على ضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، وضرورة تحقيق مصالح وتطلعات الشعب السوري، وفي هذا السياق تبنت مصر عدداً من المبادرات المهمة تجاه الأزمة السورية ومنها: اتفاقات وقف التصعيد في سوريا، واتفاقات المصالحة في مناطق الشمال والشرق بين المعارضة وبين النظام السوري (أغسطس 2018)، والساحل السوري بين الفصائل المعارضة المعتدلة وبين النظام (يوليو 2018)، والوساطة لاتفاق هدنة الغوطة الشرقية (يوليو 2017)، فضلاً عن وقوف مصر وفق منظور إنساني مع سوريا وشعبها في أعقاب زلزال فبراير 2023، حيث أرسلت مصر مساعدات إنسانية كبيرة إلى سوريا، وأوفدت وزير خارجيتها سامح شكري إلى سوريا للتعبير عن التضامن والتأكيد على وحدة المصير بين البلدين الشقيقين.
عودة الدور المصري بلبنان:
غابت مصر إثر انشغالها بمتغيرات داخلية عديدة عن الساحة اللبنانية لسنوات، لكن الحقبة الجديدة شهدت حضوراً مصرياً لافتاً على مستوى الأزمة اللبنانية، إلى الحد الذي جعل بعض الدوائر اللبنانية تنظر إلى الدور المصري باعتباره "الدور الخارجي الأكثر قبولاً لدى الشارع اللبناني والنخب السياسية المختلفة"، خصوصاً وأن مصر تربطها علاقات متوازنة بكافة الفاعلين السياسيين في المشهد اللبناني، فضلاً عن الفاعلين الدوليين والإقليميين.
في هذا السياق يجري المسؤولون المصريون مباحثات مستمرة مع نظرائهم اللبنانيين، كذلك ساهمت مصر في دعم وإغاثة لبنان في أعقاب حادث انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020، وسيرت على الفور جسرًا جويًا متواصلًا محمّلًا بمساعدات كبيرة ومتعددة تراعي متطلبات لبنان واحتياجاته في هذا الظرف ومتطلبات القطاع الطبي والصحي الذي كان يواجه أزمتين في آن واحد، هما: تداعيات الانفجار، وأزمة فيروس (كوفيد-19)، بجانب كميات كبيرة من المواد الإغاثية، فضلًا عن مواد البناء اللازمة لإعادة الإعمار، كما شاركت مصر في مؤتمري المانحين الدوليين اللذين تما في 9 أغسطس و2 ديسمبر 2020، وحث خلالهما الفرقاء اللبنانيين على ضرورة النأي بوطنهم عن التجاذبات والصراعات الإقليمية، وتركيز الجهود على دعم مؤسسات الدولة الوطنية.
انخراط فاعل في الأزمة الليبية:
ساهمت مصر في دعم مسارات حل الأزمة في ليبيا، وتحقيق جهود خفض تصعيد الأزمة بها على كافة المستويات بما يحقق وحدة وسيادة الدولة الليبية، ومواجهة التنظيمات الإرهابية التي حاولت تحويل ليبيا إلى قاعدة عمليات لأنشطتها في شمال إفريقيا وجنوب المتوسط، فكان الدور النشط والفعال والدبلوماسية النشطة والهادئة نحو تحقيق الاستقرار في ليبيا، حيث نجحت في التنسيق مع البعثة الأممية والمؤسسات الليبية في صياغة مسار تسوية اقتصادي، يرمي إلى إبعاد تفاعلات الصراع عن الاقتصاد الليبي، وإنهاء حالة الانقسام التي طرأت على مؤسساته المالية، وهو ما تكلل بالنجاح مع إعلان توحيد أسعار صرف الدينار وتوحيد الموازنة للعام 2021، بالإضافة إلى دعمها للجيش الوطني الليبي، كما استهدفت بضربات جوية معاقل تنظيم داعش في مدن الساحل الشرقي الليبي، وكثفت من جهودها لضبط الحدود. بالإضافة إلى الوقوف أمام الدور الخارجي المزعزع لاستقرار ليبيا، إذ أدانت نقل تركيا للمرتزقة والعناصر الإرهابية إلى ليبيا، وتجلى ذلك عندما رسمت مصر الخط الأحمر "سرت-الجفرة" الذي أنهى العمليات العسكرية بالمنطقة الغربية، وبدد بعض الأطماع الإقليمية في السيطرة على مناطق الهلال النفطي، وقاد لتفعيل عملية السلام، بالإضافة إلى استضافة القاهرة وفودًا ممثلة للقوى الاجتماعية كالقبائل والمجالس الاجتماعية الليبية، والمؤسسات كالبرلمان الليبي والجيش الوطني وحكومة الوفاق، وهو ما عزز من تمسك الليبيين برؤيتها للحل كأساس مستدامٍ للتسوية الشاملة.
كذلك شاركت مصر في كافة المبادرات الرامية للتسوية السياسية للأزمة، كلقاءات باريس الفرنسية (مايو 2018)، وباليرمو الإيطالية (نوفمبر 2018)، ومؤتمر برلين (يناير 2020)، والعديد من الجولات الأخرى، وساهمت في جلوس الأطراف الليبية في عديدٍ من المناسبات للتفاوض والحوار، واستضافت مجموعات ممثلة لكافة التيارات السياسية الفاعلة بالمشهد الليبي (يوليو 2016)، للوصول إلى أرضية توافقية لحلحلة الأزمة ووقف الاقتتال. وكان للقاهرة عدة مبادرات أطلقتها على أعلى مستوى، كمبادرتها لتوحيد البرلمان الليبي، وإعلان القاهرة لوقف العمليات العسكرية والشروع بالتسوية السلمية (يوليو 2020)، كما لعبت اللجنة الوطنية العليا المصرية المختصة بالملف الليبي دورًا مهمًا في هذا الملف.
وفي سياق متصل لعبت مصر دوراً مهماً على مستوى قيادة جهود ومحاولات توحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية الليبية، وكانت اجتماعات القاهرة (سبتمبر 2017) ولقاءات الغردقة (سبتمبر 2020) كجولات مستمرة للدفع بهذا المسار، ونجحت تلك الجهود في وصول لجنة (5+5) إلى اتفاق مستدامٍ لوقف إطلاق النار (أكتوبر 2020).
دور مصري بارز منذ بداية الأزمة السودانية:
مثلت الدولة المصرية واحداً من أهم الفاعلين في المشهد السوداني، وذلك منذ منذ إعلان القوات المسلحة السودانية عزل الرئيس عمر حسن البشير من السلطة في 11 أبريل 2019 وما تبع ذلك من تطورات وتداعيات، وصولاً إلى الأزمة الحالية والحرب الأهلية بين الجيش الوطني السوداني وميليشيا الدعم السريع بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو، وقد اكتسب الدور المصري تجاه الأزمة السودانية منذ عزل "البشير" أهمية كبيرة وخاصة، وذلك في ضوء بعض الاعتبارات ومنها: أن هذا المتغير جاء بالتزامن مع رئاسة مصر للاتحاد الأفريقي، فضلاً عن ما تحظى به القاهرة من دور حيوي تجاه أي تطورات سودانية في ضوء الاعتبارات الجغرافية والسياسية والتاريخية التي تربطها بالسودان، بما يملكها أوراق ضغط يمكن توظيفها من أجل الدفع باتجاه التهدئة.
ويمكن القول إن التحرك المصري تجاه الأزمة السودانية كان محكوماً بجملة من المحددات التي أكسبته فاعلية كبيرة حتى اليوم، ومنها: الوقوف على مسافة واحدة من كافة الأطراف المتصارعة على قاعدة أولوية الحلول السياسية والتسوية الشاملة للأزمة، سواءً في فترة ما بعد "البشير" في ثنايا الصراع بين المكونين المدني والعسكري، أو في الفترات الأخيرة منذ اندلاع الحرب بين الجيش الوطني السوداني وقوات الدعم السريع، كذلك حرصت القاهرة على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع طرفي الأزمة، وهو ما يجعلها وسيطًا يحظى بالقبول من جانب مختلف الأطراف في الداخل السوداني.
أيضاً فقد غلب الطابع "الإنساني" على المقاربة المصرية في التعامل مع التطورات في السودان، خصوصاً على مستوى استضافة اللاجئين السودانيين، وقد أشاد المجتمع الدولي بالدور المصري الذي لعبته مصر في فتح الحدود واستضافتها للسودانيين منذ اندلاع الصراع، وتوفير المساعدات الإغاثية لهم.
كذلك اتسمت المقاربةالمصرية بأنها عملت على حشد الدول المجاورة للسودان، والتي لديها مصلحة مشتركة في إنهاء الصراع في السودان، والحفاظ على وحدة وسيادة الدولة السودانية، حيث إن عدم استقرار السودان من شأنه أن يؤدى إلى زعزعة أمن الدول المشتركة في الحدود مع السودان، ولذلك يعتبر تأمين الحدود المشتركة أولوية لدى دول الجوار لمنع تسلل العناصر الإرهابية وتهريب الأسلحة. وقد عملت الدولة المصرية على حشد الدول المجاورة للسودان وقيامها بعقد قمة على مستوى الزعماء ورؤساء الحكومات لدول الجوار المباشر السودان يوم الثالث عشر من يوليو 2023. وفي هذه القمة أوضحت الدولة المصرية رؤيتها بشأن معالجة الأزمة السودانية والتي تتمحور حول التركيز على الرؤية المصرية لإنهاء الأزمة في السودان والوقف الدائم لإطلاق النار، والبدء بعدها في مشاورات حول المسار السياسي بمشاركة كل الأطراف السودانية لوضع خارطة طريق جديدة لمستقبل السودان، ويتم ترجمة هذه الرؤية إلى خطوات فعلية من خلال تشكيل آلية وزارية بشأن الأزمة السودانية على مستوى وزراء خارجية دول الجوار، للتوصل لحل سياسي للأزمة بشكل مستدام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة