البحث عن المعلومات الموثقة عن الفنانين الذي مر علي رحيلهم زمن سحيق دائما يشوبها الاختلاق وعدم الدقة، وغالبًا لا نجد المراجع الموثقة المستندة علي مادة علمية، والكثير من المعلومات نجدها متضاربة ومختلقة فيحدث تشويش وتضارب في المعلومات، وبخاصة في معرفة السيرة الذاتية للفنانين، وقبل الاحتفاء بفنان من أعظم فناني مصر وهو فنان الشعب بلا منازع ومنافس في اللقب سيد درويش، كان لزامًا علينا تقديم مادة موثقة وحقيقية بالرجوع الي مصادر موثوقة مثل سجلات الإذاعة المصرية وسجلات جمعية المؤلفين والملحنين وإصدارت كتبها نقاد وأساتذة في عالم الموسيقا والغناء .
تؤكد المصادر الموثقة أن سيد درويش ولد في 17 مارس عام 1892، من أبوين فقيرين من عامة الشعب المطحون في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، أي بعد انقضاء عشر سنوات علي الاحتلال البريطاني للأراضي المصرية، وكانت مصر يومئذ تابعة للخلافة العثمانية، والحقه والده بكتاب "سيدي أحمد الخياش" وتلقي فيه خلال عامين ما مكنه من حفظ القرآن الكريم ثم انتقل إلى مدرسة "حسن حلاوة"، وكان بالمدرسة مدرس مغرم بالغناء، وكانت هواياته تلقين هذه الغنائيات لطلبته في المدرسة ، فكان سيد درويش أشد الطلبة إقبالا علي حفظ واستيعاب تلك الأنغام، وظهرت موهبته الغنائية بما يتفق ويتجاوب مع هذه الهوية التي اكتشفها المدرس، فأحاطه برعايته بل ورشحه لأن يكون رئيسا لفرقته، وعهد إليه بتدريب الطلبة علي الغناء، وكان من أثر ذلك أن شاعت في نفس سيد درويش ثقته بنفسه، انتقل بعد ذلك إلي مدرسة شمس المدارس بحي راس التين وشاءت المصادفة أن أحد مدرسيها يعمل ليلا بفرقة الشيخ سلامة حجازي، ويحفظ قصائده فكان يلقنها لتلاميذه، واستطاع أن يكتشف موهبة سيد درويش من بينهم، فقربه اليه وتعهده بالرعاية الفنية ولقنه مجموعة من الأناشيد والسلامات ثم الألحان وقصائد الشيخ سلامة حجازي وهكذا كان الحظ حليفا لسيد درويش .
-
سيد درويش المؤذن حافظ القرآن الكريم
في عام 1905 التحق سيد درويش بالمعهد الديني بمسجد إبي العباس بالإسكندرية، ثم انتقل إلى مسجد الشوربجي ليستكمل دراسته بالسنة الثانية حيث استكمل حفظ القرآن الكريم وجوده، وتفوق علي أقرانه باسلوبه المتميز في تلاوة القرآن الكريم، وظل سيد درويش يؤذن للصلاة في هذا المسجد طيلة ذلك العام الدراسي، ذاعت شهرته بين مشايخ المعهد وطلبته واكتسب ودهم وصداقتهم .
وفي عام 1907 مات أبوه الحاج درويش البحر تاركا أسرة ليس لها موارد مالية تتعيش منها، وليس لها عائل إلا الابن الوحيد سيد درويش فتحمل مسئولية أمه وشقيقاته، ففتح حانوتا للعطارة كان مكسبه قليلا، وذات يوم جمعة أغلق حانوته وذهب ليؤدي صلاة الجمعة في جامع إبي العباس، فطلب منه شيخ المسجد أن يقرأ سورة الكهف لتغيب المقرئ فاحسن سيد درويش وأجاد التلاوة ، ومنذ ذلك الوقت بدأت الخطوات الأولي لشهرته كمقرئ .
المعلومات الموثقة عن سيد درويش
اضطرته ظروفه العائلية الي العمل كمغني يؤدي الحان الشيخ سلامة حجازي في فرقة "جورج دخول" وكانت تسمي بفرقة "كامل الأصلي" ولم يستمر عمله طويلا لأن الظروف قضت بحل الفرقة، وكان التحاقه بهذه الفرقة سببا أساسيا في فصله من المعهد الديني ، ولما اضطرته ظروف الحياة الملحة أن يعمل مناولا لعمال البناء ، كان يحاول في عمله ان يعبر عن آلامه وأحزانه بغناء بعض الألحان الفولكلورية التي كانت شائعة بين الأوساط الشعبية في ذلك الحين، ولاحظ المقاول زيادة الإنتاج ورغبة صادقة من عمال البناء في اقبالهم علي العمل كلما انطلق صوت سيد درويش بالغناء ، مما دفع المقاول الي اختيار سيد درويش ملاحظا للعمال علي ان يكتفي منه بالغناء لهم اثناء العمل .
منذ تلك اللحظة صار سيد درويش مطربا لأول فرقة عمالية من زملائه عمال البناء وأثناء اندماج سيد درويش في غنائه للعمال، تشاء الأقدار أن يستمع اليه الاخوان سليم وأمين عطا الله وهما جالسان علي مقهي مجاورة فأعجب بأدائه الغنائي وصوته وعرضا عليه اتفاقا ليعمل معهما مغنيا في فرقتهما الجوالة التي كانت تستعد للسفر الي الشام فلم يتردد سيد درويش في قبول العرض .
سافر سيد درويش مع هذه الفرقة الي الشام مرتين عامي (1909 و 1912 ) وفي الرحلة الاولي لم ينجح سيد درويش بسبب سبق وجود الشيخ سلامة حجازي في الشام قبل رحلته، مما اضطره لمزاولة فن التمثيل في هذه الرحلة، فاكتسب خبرة في الأداء المسرحي كممثل وهذه التجربة والممارسة العلمية لفن التمثيل أفادته كثيرا عندما بدأ نشاطه في التلحين للفرق المسرحية ، أما المرحلة الثانية عام 1912 فقد ساعدته علي استكمال بناء شخصيته الفنية، حيث سنحت له فرص الالتقاء ببعض كبار الموسيقيين امثال الشيخ صالح الجذبة والشيخ علي الدرويش والاستاذ الكبير عثمان الموصلي وغيرهم ، فأخذ ضروبات وموازين موسيقية كثيرة وموسحات عربية قديمة ، كما تشبع بالكثير من أغانيهم فحفظها واتقنها واستفاد منها، ثم عاد إلى مصر بعد أن زار كل أنحاء الشام والعراق والأناضول وتركيا، وعاد مقتنيا زخيرة من الكتب الفنية والأدبية .
ويؤكد الراحل د. زين نصار في موسوعته "الموسيقا والغناء في مصر في القرن العشرين" أن سيد درويش خلال جولته في البلاد العربية الشقيقة تبلورت مواهبه الفنية التي ظهرت آثارها وتجلت معالمها في الألحان التي وضعها لمجموعة من الأناشيد الوطنية والسلامات التي كانت تقدم في بداية ونهاية الحفلات كتحية غنائية للمتفرجين والحكام ، وقبل عزل الخديوي عباس حلمي الثاني كان سيد درويش قد تقدم بطلب يلتمس ترشيحه لبعثة فنية إلي الخارج يدرس فيها الموسيقي علي نفقة الحكومة المصرية وأرفق بطلبه دور ( عواطفك دي أشهر من نار ) الذي كانت بداية كل شطرة منه تبدأ بحرف من عباس حلمي خديوي مصر آملا في الموافقة علي طلبه، ولكن لم يستجب الخديوي لطلبه واكتفي بمنحه مكافأة مالية.
سيد درويش المجدد العبقري
وفي عام 1914 مارس سيد درويش الغناء في المقاهي بالإسكندرية بعد أن تخير لنفسه مجموعة من العازفين ، نذكر منها مقاهي ( شيبان - سلامون - الإسماعيلية - السلام ) وفي عام 1917 انتقل سيد درويش للقاهرة وبدأ يشق طريقه الفني بصعوبة، وما كاد الشيخ سلامة حجازي يعرف بعض متاعب سيد درويش في الحياة حتي بادر الي اقامة حفل عرض فيه رواية( غانية الأندلس ) خصص ايراده له ، إلا أن سيد درويش - وكان عزيز النفس - اشترط ألا يأخذ شيئا إلا إذا قام بعمل يستحق عليه المكافأة، فسمح له الشيخ سلامة بالانشاد والغناء بين فصول الرواية ولكنه قوبل من الجمهور بفتور شديد .
في عام 1917 بدأ سيد درويش نشاطه في المسرح الغنائي بالتعاون مع فرقة جورج ابيض ، فلحن له روايتي ( الهواري ) و( فيروز شاه )، ثم تعاقد مع فرقة نجيب الريحاني ولحن لها أجمل الأغاني ذات الطابع الشعبي والتي كتب أزجالها بديع خيري وغناها نجيب الريحاني بشخصيته المرحة ( كشكش بيه ) .