تم إعداد ساحات ميدان عابدين على نظام ووضع متفنن فى 30 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1882، يصفه «سليم خليل النقاش» فى كتابه «مصر للمصريين»، قائلا: «رفعت فوقه الألوية البهيجة وفرش بالبسط النفيسة والمفروشات الثمينة حتى كان بهجة للأنظار وسحرا للعقول».
تزين ميدان عابدين لاستقبال استعراض الخديو توفيق للجيش الإنجليزى، وكانت مصر وقتئذ تنتقل إلى سيادة الاحتلال الإنجليزى عليها منذ أن دخلها بعد هزيمة أحمد عرابى فى موقعة التل الكبير يوم 13 سبتمبر 1882، وكان الخديو توفيق يواصل إصدار قراراته التى تؤكد خيانته وتعزز وتبسط هيمنة هذا الاحتلال البغيض، ومن أهمها قراره بحل الجيش المصرى يوم 19 سبتمبر من عام 1882، ويذكر أحمد عرابى فى مذكراته «كشف الستار عن سر الأسرار فى النهضة المصرية المشهورة بالثورة العرابية» دراسة وتحقيق الدكتور عبدالمنعم الجميعى: «صدر أمر الخديو بإلغاء الجيش المصرى وصرف العساكر إلى بلادهم، ومحاكمة الضباط وكبار قادة الجيش المدافع عن البلاد بصفتهم أنهم عصاة».
يحدد «الجميعى» الهدف الأصلى من قرار توفيق بحل الجيش قائلا: «القضاء على العسكرية المصرية، وتشكيل جيش جديد تحت الإشراف الإنجليزى، وإلغاء الرتب العسكرية المعطاة فى مدة الثورة العرابية»، وتقول الدكتورة لطيفة سالم فى كتاب «خمسون عاما على الثورة العرابية – رؤية الأهرام» تأليف داود بركات: «أصدر الخديو أمره بحل الجيش على أساس أنه أيد الثوريين، وبالطبع جاء ذلك وفقا لإرادة المحتل».
بعد 11 يوما من قرار حل الجيش المصرى، وقع الحدث المهين الذى «عبر عن غروب شمس الكرامة والعزة القومية فى نفوس أولئك الذين اجتمعوا لتكريم جيش الاحتلال»، وفقا لتأكيد عبدالرحمن الرافعى فى كتابه «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزى»، وكان «ميدان عابدين» على النقيض تماما من اللحظة الوطنية التى كان عليها يوم 9 سبتمبر 1881، والذى وقف فيه عرابى وقفته الشهيرة على رأس جنوده فى مواجهة الخديو توفيق.
يرصد محمود الخفيف فى كتابه «أحمد عرابى الزعيم المفترى عليه» وقائع اليوم المهين، قائلا: «فى الثلاثين من سبتمبر اصطف الجيش الإنجليزى فى ميدان عابدين، فى المكان نفسه حيث وقف عرابى قبل ذلك بسنة وقفته المشهورة ومعه الجيش المصرى فى التاسع من سبتمبر 1881 يسمع الخديو مطالب الأمة، ويعلن مشيئتها، ولا تقع عينا توفيق الآن على جنود يتحدونه، بل تقع على جنود يحيونه ويحييهم رافعا يده بالسلام العسكرى، ولكم أثلج فؤاده أن يرى هذه القوة التى ظن أنها تسند عرشه، ولو أنه فكر قليلا لفطن إلى أنها كانت تمتهن ذلك العرش، وكان الخديو فى المقصورة التى أعدت له يرتدى ملابسه الرسمية، وكان يحيط به الوزراء والكبراء كذلك بأرديتهم الرسمية وأوسمتهم».
يذكر « سليم النقاش»، وقائع ما جرى فى 30 سبتمبر المشؤوم وكان يوم «سبت» قائلا: «تم إعداد مقام للخديوى فى ساحة عابدين، وفوقه سرادق عظيم ليكون فيه أثناء عرض الجيوش الإنجليزية عليه، ويضيف : «تم إعداده«الميدان»، ورفعت فوقه الألوية، وفرش بالبسط والآثاثات الثمينة، وفى الساعة الرابعة بعد الظهر أقبل الخديو بالملابس الرسمية، وعلى يساره محمد شريف باشا رئيس مجلس النظار، وأمامه مصطفى رياض باشا ناظر الداخلية، وعمر باشا لطفى ناظر الحربية والبحرية، ومن خلفه بقية النظار وبعض العلماء والذوات الذين لم يسجنوا ورجال المعية، وكلهم بالملابس الرسمية، وكان الجنرال ولسلى «قائد القوات الإنجليزية فى حربها ضد عرابى» والدوق أوف كنوت نجل الملكة على ظهور الخيل بجانب المقام المذكور، وكثير من الضباط والياوران الإنجليز تجاهه فرسانا».
يضيف النقاش: «فى بدء الساعة الخامسة أخذت العساكر فى المرور، واستمرت ساعة ونصفا وكانت موسيقى كل فرقة منهم تقف أمام المقام، وتعزف بألحانها العسكرية حتى يتم مرور فرقتها ثم تليها الثانية ثم تليها الأخرى، وهكذا إلى أن تم مرور الجيش بأجمعه، وكان الجيش فى مروره منقسما إلى قسمين، وكل منهما مؤلفا من الفرسان ورجال المدافع والمشاة، واكتمل مرورهم على هذا النظام والترتيب العسكريين قبل الغروب».
تصف مجلة «الوقائع المصرية» الحدث فى عددها الصادر بتاريخ الأول من أكتوبر، قائلة: «أخذت البهجة طريقها للخديوى والحاضرين معه بما رأوه، وانشرحت صدور الحاضرين وأعجب الجناب الخديو المعظم بما رآه من مهارة رؤسائهم وضباطهم «الإنجليز»، وحسن انتظام العساكر وكمال نظامهم، وشكر الكل لهم ما قدموا به من إخماد فتنة العصاة «رجال الثورة العرابية» وإطفاء ثورتهم».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة